نقلت لنا عدسات الكاميرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمحطات التلفزيونية أحداث الشغب والاحتجاجات التي اجتاحت المدن والولايات الأمريكية إثر حادثة وفاة المواطن الأمريكي من أصل إفريقي (Afro-American) جورج فلويد.. وكثير من المتابعين لهذه الأحداث يتساءلون كيف تحولت المظاهرات السلمية المطالبة بالحقوق والعدالة الجنائية والاجتماعية للفئات الاجتماعية المهمشة في المجتمع الأمريكي إلى أعمال شغب ونهب وسرقه للمحلات، ويستغربون من هذا التصرف. فكيف تجتمع المطالبة بالعدالة والحقوق المشروعة مع أعمال سلب ونهب بشعة!!
في الحقيقة إن هذا السلوك سلوك طبيعي ومتوقع في مثل هذه الظروف، وإن كان سلوكاً مرفوضاً.
وقد عزا عالم الاجتماع الفرنسي أميل دوركايم هذه الحالة إلى حالة Anomie «الأنومي» أو «اللامعيارية» الناتجة عن اختلال المعايير. فهذه الجرائم عادة ما تكون ناتجة عن اختلال التنظيم الاجتماعي بسبب الأزمات السياسية أو الاقتصادية أو الكوارث الطبيعية، حيث تتطور الأمور حسب هذه المراحل:
أزمة = تؤدي إلى ==) اختلال التنظيم الاجتماعي = يؤدي إلى==) اختلال عملية الضبط الاجتماعي = التي تؤدي إلى ==) اختلال المعايير = مما يؤدي إلى ==) حالة الأنومي (اللامعيارية) = التي تقود إلى==) أن يطلق الناس العنان لأهوائهم ورغباتهم = فيؤدي ذلك إلى ==) حدوث الجريمة.
فما نشاهده من أحداث شغب ونهب وسرقة في بعض المدن الأمريكية ما هو إلا نتاج لهذا النموذج.. حيث حصل حدث سياسي (وفاة المواطن جورج فلويد) على يد رجل شرطة أبيض، وذلك بوضع ركبته على رقبة فلويد لحوالي 9 دقائق مما أدى إلى وفاته (وأياً كان سبب الوفاة الحقيقي) إلا أن هذه الحادثة أدت إلى إثارة الرأي العام الأمريكي، خصوصاً أولئك الذين يعودون لأصول إفريقية. أدت هذه الحادثة إلى إشعال فتيل احتجاجات على ما حصل طالت عدة مدن وولايات، وذلك بسبب فقدان الفئات المهمشة في المجتمع ثقتها بالنظام الجنائي والعدلي الرسمي (وهذه الحادثة تذكرنا بأحداث شغب حادثة رودني كينغ في مدينة لوس أنجلوس التي انطلقت شرارتها في 3 مارس 1991). الاحتجاجات الجديدة أدت إلى اختلال التنظيم الاجتماعي، هذا الخلل أدى إلى ضعف عملية الضبط الاجتماعي وأصبحت الشرطة غير مسيطرة على الأوضاع، مما أضعف عملية الضبط الاجتماعي الرسمي، فأدى ذلك إلى انتشار حالة الأنومي (اللامعيارية)، وهي اختلال المعايير، معايير الحق والباطل، معايير الصواب والخطأ، لدى البعض، فأطلقوا العنان لأهوائهم ورغباتهم، فحصل السلب والنهب والسرقات للمحال التجاريه. أحداث الشغب والنهب هذه لا تمت بأي صلة للمطالبة بالحقوق والعدالة.
فحالة الأنومي (اللامعيارية) هذه حاله متوقعة في كل الأزمات والكوارث والحروب. والتاريخ يدون لنا صوراً كثيرة لأحداث على هذه الشاكلة، نذكر بعضها على سبيل المثال:
- أحداث السلب والنهب التي حصلت أثناء احتجاجات مانيلا بالفلبين إبّان سقوط الرئيس ماركوس (1986).
- أحداث السلب والنهب التي حصلت إبّان حادثة رودني كينغ في لوس أنجلوس، بأمريكا (1991).
- أحداث السلب والنهب التي حصلت أثناء احتجاجات جاكرتا بأندونيسيا إبّان سقوط الرئيس سوهارتو (1998).
- أحداث السرقات والنهب التي حدثت بعد الانفجار الذي حصل في ماراثون بوسطن في أمريكا (2003).
- أحداث السلب والنهب في العراق إبّان سقوط النظام العراقي (2003).
- أحداث السلب والنهب أثناء إعصار كاترينا في لويزيانا، بأمريكا (2005).
- أحداث النهب والسرقات التي حصلت أثناء الاحتجاجات في القاهرة إبّان سقوط الرئيس حسني مبارك (2011).
وغيرها من الأحداث التي حصلت في كثير من الدول المتقدمة والنامية.. إن مثل هذه الأحداث تشير إلى شيوع حالة من اللامعيارية تصاحب الأزمات السياسية والكوارث تؤدي إلى ارتكاب السلب والنهب والسرقات، وذلك في ظل غياب الرقيب الخارجي وضعف عملية الضبط الاجتماعي. فما يحصل من بعض الأمريكيين في أحداث الشغب الأخيرة يعد سلوك متوقع لدى من لا يكون لديه رادع داخلي وضمير حي ووازع يمنعه من ارتكاب مثل هذه السلوكيات المنحرفة.
** **
د. حميد بن خليل الشايجي - جامعة الملك سعود