الكاتب ليس إلا نوعًا من نبات الفكر، الذي تتفجر بذرته وسط تربة الإبداع، وتنتج حبته السنابل السمان، أو بعض الأعشاب الشوكية الضارة أحيانًا، وقد يستمر طلوعًا وتطلعًا يزهر، ويثمر، وقد يظل مرًا عقيمًا على جانب صخرة صلدة، تمنع عنه نشوة الضياء والتمتع بحبات المطر، وقد يرتوي، ويترعرع، ويزهو في عين سائمة، تجد في قضم أغصانه الطرية، واجترارها، وإخراجها، أفضل ما تقدمه للعالم من إبداع.
نعم الكاتب مفهوم حي يتحرك ويحاول أن يكون، وأن يشعل الأضواء من حوله وفي كل مكان، لكنه وحسب ظروف ثقافته، ومعتقداته، ومطامعه، ومساحات حريته، قد يزل الطريق، ويجد نفسه يكذب، أو يجرح ثم يداوي، أو يتبلد حسه، فلا يعود ينظر ولا يهتم لما يقدمه من ثمار للثقافة، قد تكون لذيذة مفيدة، وقد تكون بلا طعم، وقد تكون مجرد مسحوق سمي أسود، ينتج الحساسية ويسبب الموت.
البعض من الكتاب، يكذب، حتى تصبح كذباته شعارًا لوجوده، والبعض يكتب بشرايينه، أو بمداد دموعه، والبعض، يحاول أن يجمل كلماته ويعلمها الرقص، ليتشقلب فوق حد الرقيب، والبعض يفشل أيما فشل في البقاء طويلا، بصورة سلسة رصينة، تعرف ما تكتب، وتدرك متى وأين ولماذا تتوقف؟
مردود كتابته قد يكون مفيدًا لنفسيته، حينما تجعله يعود إلى ذاته، ويشعر بإِنسانيته، ويحاول تعديل صفاته، والارتقاء بما يطنطن به على المنابر، والبعض يغتر بأول إعجاب يأتيه من قارئ، أو قراء، أو مواقع تواصل، قد تكون، سطحية تهتم بالصورة والرونق والتأثير الجمعي أكثر، فلا تبلغ العمق، ولا تضع البضاعة، على نفس الميزان، ما يجعل، الصخر مثقالاً بدينار.
البعض يدرك قيمة بضاعته، ويستطيع تحديد قيمته الفعلية، في السوق، ويعرف ما يعجب الزبون، كاتب يسعد ويتضخم فلكه بشيء من النفاق والمديح، ويعلو بمحاولات قلب الحقائق، فيبيع ذاته رخيصة، أو غالية، أو في السوق السوداء، ولكنه واقعًا، ينسى أنه مفكر كاتب نبات، ويتجه لتعلم مهنة الخياطة، والقص، واللصق، وشيء من التطريز والزبرقة، والتعري، ويشتري قلما يدير حركته بقدمه، لينتج من أزياء المقالات الكثير، مما يرتدى، ومما يعرض في الفتارين، ومما لا يُعتد به عند البحث عن تثقيف أو تنوير، أو بلوغ غاية العدالة، أو نقاء فكر الإنسانية.
البعض يتبلد حسه في مرحلة أو منعطف، ويصبح يكتب بزوائد حلزون قوقعة، مدفونة تحت مياه المحيط، وتظل تراقب سطوة السلطعون، وهو يقترب دهشة منها، ويغطي جزءًا عظيمًا من الصورة، والبعض يمل من الكتابة، التي لم تعد غير مهنة حرفية مملة، لا تحرك في داخله، حس، ولا تفكير، وتكتفي بترقيص الحروف، لدرجة عدم الاكتراث من عدد الذباب، المتكاثر على فج أوراقها.
البعض يحلم، ويتمنى، ويظل يجري، في مارثون، هو يعرف أنه لن يسبق فيه الخطوات، وأنه لن يكون الأخير، فلا يأبه بضحكات من يراقبون، خموله، وتقاعسه، وهو في مصاف السلحفاة، بمشاعرها الرتيبة التلمة، وهي تحلم بعبور خط النهاية.
البعض يكتب وهو يعايش مشكلة طارئة، تحدث في حياته، وتجعله يستيقظ على حرج حاله، فجأة، بهزة مشاعر، وعودة للأصل، وكره شديد للحال، المتخبط بين الأوراق، بلا هدف يفيد البشرية، ولا لسان يستحلي أو يتمكن من النطق بالحق، فيقرر أن يعتزل الكتابة، ودخول سرداب عزلة، يحتاج متاهاتها، وظلمتها، لاستعادة نقاء وبراءة بذرته القديمة، المتحجرة الملتصقة وسط التراب الملحي الجاف، الذي يعمل على تحللها.
اعتزال!، كيف يعتزل عقل المفكر؟ وهل تلك مهنة يمكن الاعتزال فيها، والتقاعد منها، طالما أن الأفكار ما زالت تنبت، وأن السطور ما زالت لا تنحرف ولا تتوقف كثيرًا عند إشارات الموت، وأن الفكرة الشاملة، تستطيع حمل اللب؟
هل الاعتزال تحقيق لرغبة الكاتب النفسية، أم بناء على رغبة جمهوره من القراء؟
هل سيريح ذاته المتعبة المتخبطة في عوالم الكتابة، أم أنه سيشقى بالوحدة والعدم، ويريح فقط من كانوا يتابعونه من بعيد، وينتقدونه، ويتمنون أن يعدل مساره الغريب على مبادئهم لينتظم مع وجهات أنظارهم؟
هل الكاتب فارس يمتطي ظهر فرص جامحة، ليحجم ويعقل يومًا، ويخرج من ميدان مهمة البوح والتنوير، ويفقد الهدف، وينزوي وسط زوايا الأطماع، والتجمل، والكذب؟
البعض حتى لو هجر الكتابة وتقاعد، فهو كاذب يريد امتحان الأجواء والعواصف، والنظر في أعين المتسائلين، والعودة منتشيا عند أول طلب له بالعودة، بعد أن يكتسب روح المرضي عنه، المؤثر، الذي يعتقد برغبته في عدم قتل إبداعه.
ما أغرب عوالم الكتابة، وما أصعب كبح جماح الأنا، وما أشقى أن يجد الموهوب نفسه، يكتب لغيره، ويرخص قلمه، ويزهو بكذبات يصوغها، مهما تناقضت مع كذبات قديمة، كان يؤمن بها، ولكنه كفر مرتدًا مرة ثانية.
لا نجد في كل يوم كاتب يعتزل الكتابة، مع أن الاعتزال جزء من تسلسل حياة الكتابة، ولا نجد من يصدُق في نوايا الابتعاد كليًا عن القلم والورقة، وهو بكامل عقله وصحته وخياله، ولا نجد من يتمكن من تجويد مكانته، وتجديد أفكاره، والبقاء نقيًا دون أطماع، أو ضغوط.
الكل يحاول تصوير وهج شمعة، ألهبت خطواته، في غابة من أعشاب الغموض، وأنياب الوحوش، والصواعق الحارقة، والتحديات، ويظل يفرح بها فترة، قبل أن يجد نفسه غير قادر على الاستمرار، إلا لو أعاد شحذ قلمه بالنوايا، وصبغ لون رأسه بحبر التسويف، وكتب بدموع الخوف فوق أوراق الحياة، على غير هدى، ليعيش، مهما كانت ظروفه غريبة، ومهما كانت كلماته أنيقة، بلا تساقط على أرض الواقع وبلا معنى، وعكاز أنيق.
** **
- د. شاهر النهاري