علمونا في مقاعد الدراسة الأولى للبلاغة أن لفظة «البلاغة» تحيل على بلوغ الشيء منتهاه؛ ولذلك سُميتْ بهذا الاسم؛ لأنها تبلغ منتهى المعنى. وما إن نفرغ من هذا الدرس النظري الذي يعد بمنزلة مقدمة للشروع في عالم البلاغة حتى نقف أمام علومها الثلاثة: (المعاني، البيان، البديع)، ونتخرج حفظة لتعاريف وأركان أجناس بلاغية مفرغة من بلوغ منتهى المعنى الذي سُميت به البلاغة!
في كل علم من هذه العلوم الثلاثة أجناس بلاغية، تتجاوز جمالية تركيب العبارة إلى جمال المعنى، فالتشبيه - على سبيل التمثيل - يصف معنى ما بدقة أكثر مما لو جرى الوصف على مماثلة الواقع. والحجة القائمة على المجاز تكسب الموقف أكثر مما لو جاءت بوصف واقعي؛ وهذا مما لاشك فيه أنه مما يجب أن يؤخذ بالاعتبار في التعاطي مع الأجناس البلاغية دراسة وتطبيقًا إن كان التطبيق في تحليل المدونات في الأبحاث العلمية، أو في استخدامها في حياتنا اليومية. وهذا أمر كثيرًا ما تم التطرق إليه والتنبيه عليه. وأذكره هنا للاعتبار له والاستدراج منه إلى رأيي في فلسفة البلاغة.
منذ ردح من الزمان والبلاغة في فلسفتي قائمة على المعنى المنوط بمعنية الكاتب، مثلما هو مقدم بفلسفة البلاغي الناقد. فالأجناس البلاغية اللغوية من شأنها أن تكون بلاغة، تتجلى في تركيب العبارة والمعنى على حد سواء، لكن المشين لدني هو اقتصار البلاغة على الأجناس البلاغية، وهي أصغر أجزائها، فيما البلاغة تمتد إلى ما يتجاوز اللغة، تمتد إلى المعنى، الذي يتجاوز أطراف الأبجدية بالرغم من أنه متقولب بها! وهنا تحديدًا مناط مزية البلاغة في مكاشفة المعنى المقتصر على ثوب الأبجدية، والمعنى الحي الممتد خارج أطراف اللغة.
فثمة نصوص لم تتقولب في أي من الأجناس البلاغية، لكنها بلغت منتهى المعنى، إما بواسطة اللغة، أو بواسطة عوامل أخرى. فأما ما كان من الأولى فكثير من العبارات والنصوص التي تؤثر في المتلقي بفكرتها التي تحاكي العقل متقولبة في ألفاظ قوية وتركيب عباراتي رصين؛ فتحقق بلوغ المعنى. وأما ما كان من عوامل خارجة عن اللغة فهي كثيرة؛ فالصمت في بعض المواقف بلاغة، وهو خير مثال على أن البلاغة لا تقتصر على أجناس؛ لأنها لو كانت كذلك فكيف يكون الصمت المجرد من اللغة بليغًا! وإلى جانب الصمت ثمة عوامل أخرى: الإشارة أحيانًا، وكما قيل «اللبيب بالإشارة يفهم»، أيضًا النظرة، أوتار الصوت، وكل ما من شأنه أن يأخذ المتلقي إلى منتهى المعنى.
هذه العوامل الخارجة عن اللغة ليس بوسعي أن أحصرها على عجالة هكذا، لكني حسبي أن أشير إلى فكرة وجود بلاغة خارج اللغة. ولعل هذه العوامل تختلف من دراسة لأخرى تبعًا لماهية المدونات. هذا شيء أردت الإشارة إليه في هذا المقال. والشيء الآخر - والذي سبق - هو وجود بلاغة في اللغة، لكنها خارج الأجناس البلاغية في العلوم الثلاثة، بلاغة تتجلى بالمعنى.
ولتثبيت هذه الفكرة كان لا بد من الشرح على نصوص عدة، في نيتي أن أحررها لاحقًا - إن شاء الله -.
** **
- سراب الصبيح
sarabalwibari@gmail.com