زكية إبراهيم الحجي
المترجمون هم خيول بريد التنوير من أقوال أمير الشعراء الروسي «بوشكين» صاحب المدرسة الرومانسية وممهد طريق التفاعل الثقافي من خلال اهتمامه بالترجمة باعتبارها الخيط الناظم الذي يربط المجتمعات مع بعضها ويدعم نسيج الحضارات الإنسانية هذا عدا كونها لغة تواصل بين الشعوب المختلفة.. تعكس مدى رقيهم في مجالات المعرفة المختلفة وتسهم في تشكيل الوعي وتنوع الموروث الثقافي والفكري.
ما لعبته الترجمة في إثراء الحياة الثقافية والاجتماعية والعلمية لدى مختلف الأمم عبر التاريخ أمراً لا يمكن تجاهله أو التغاضي عنه فبدايات الترجمة تعود لعصور تاريخية قديمة حيث اكتُشفت أولى محاولات الترجمة لعدة كلمات ونقوش لحضارات قديمة كحضارة بلاد ما بين النهرين وغيرها من الحضارات التي لم يتبق منها سوى أطلال تقف على أعتاب التاريخ شاهدة على حضارات تلك الحقب المتعاقبة.
وبتوالي السنين وتعاقب القرون بقيت حركة الترجمة مستمرة في أداء دورها الذي بدأته منذ بزوغ فجر التاريخ.. وكان للمسلمين حضور بارز في حركة الترجمة وعلى وجه الخصوص ترجمة الكتب التي تُعنى بالطب وعلم الفلك والفلسفة والأدب مروراً بالموسيقى وغيرها من العلوم وذلك من اليونانية والفارسية والهندية إلى اللغة العربية مما أثرى الحياة الاجتماعية والثقافية والعلمية لأممٍ كانت لها حضارات ثم صارت أثراً بعد عين.
لقد كانت بدايات حركة الترجمة بمثابة انطلاقة لوضع لبنة من لبنات البناء الفكري والثقافي في المجتمعات فشكلت فيما بعد سلسلة من حلقات متعددة.. بدأت بتحصيل المعرفة في اللغة الأم لتنتهي بالانتماء إلى الثقافة مروراً ببناء المنظومة الفكرية وتمتين الانتماء للهوية الفردية والاجتماعية وفي تراثنا العربي الإسلامي العديد من الأمثلة الحية التي تشهد على ذلك ومن المناسب أن أورد في هذه المساحة مثالاً تُوضح مضامينه ما سبق ذكره.
يُروى أن أبا يعقوب يوسف الذي حكم بلاد المغرب والأندلس بين عامي 1163 و 1184 كان شغوفاً بقراءة كتب الأدب ويُحكى أنه أتى بترجمات كتب أرسطو وقرأها فلم يفقه منها إلا النذر اليسير عندها نصحه ابن طفيل باللجوء إلى الفيلسوف الأندلسي المغربي ابن رشد.. وإذا ذكرنا إسهامات الفيلسوف والمفكر ابن رشد في مجال الترجمة فلابد من الإشارة أيضاً إلى أولئك الفلاسفة الكبار ابن سينا والفارابي والكندي وأبوبكر الرازي وابن خلدون وكل من سبق من كبار الفلاسفة الذين كانت شروحاتهم المترجمة نقطة وصل ما بين الشرق والغرب.
لا شك أن المتتبع لازدهار الحضارات الإنسانية على مر العصور وحتى عصرنا الحالي الذي تنامى خلاله التقدم العلمي والمعرفي يلحظ أن حركة الترجمة ظاهرة تسبق كل إنجاز حضاري لأي أمة لذا لا مراء بأن الترجمة ليست كلمات بل دلالات، وفي العصر الحديث كان للترجمة أثر لا يُنكر.