أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: معرفتنا البشرية على قسمين: معرفة اضطرارية لا تفتقر إلى برهان؛ وهذه لها ثلاثة مصادر لا رابع لها البتة؛ وهي: الحس، وأوائل العقل التي لا تفتقر إلى الحس (وهي التي يسميها الإمام أبو محمد ابن حزم) رحمه الله تعالى أوائل التمييز، وأما الإلهام؛ ويدخل في ذلك الإشراقة الروحية؛ وهي رؤية القلب؛ أي أن تعتبرها حاسة سادسة)؛ وهذه المعرفة موقوفة على من وجدها، ولا تتعدى إلى الآخرين إلا بالبرهان.
قال أبو عبدالرحمن: لا يبطلها أن هناك من يدعي الإلهام وهو كاذب؛ لأن هناك من يدعي الإلهام وهو صادق؛ وإنما مشاهدة وقوعها صحة صدقها؛ فإذا كان وقوعها ذا أمدٍ طويل: فالعلم بصدق المدعي، وسلامة عقله: جالب للإيمان بها.. والقسم الثاني معرفة تكتسب بالبرهان وهذه مصدرها الحس، وأوائل التمييز؛ لأنها تستمد برهانها منهما، أو من أحدهما.. وليس الإلهام مصدراً للمعرفة البرهانية؛ لأن معرفة الملهم خاصة به؛ فلا تتعدى غيره إلا ببرهان؛ ولأن صدق المعرفة الإلهامية متوقف على وقوعها؛ والفرق بين المعرفتين: أن المعرفة الاضطرارية تحصيل لحقيقة الشيء وحكمه، وأن المعرفة البرهانية تحصيل لحكم ذلك الشيء بعد العلم بحقيقته.. خذ مثال ذلك: من شرب (السنا): فقد عرف حكم (السنا) وهو الإسهال، وعرف حقيقة الإسهال، ولم يحتج إلى برهان.. ومن لم يشرب (السنا)، ولم يتناول مسهلاً قط، ولم يصب بإسهال قط: فمعرفته البرهانية الاكتسابية (وهي أن (السنا) مسهل)؛ إنما هي بالوصف؛ ولا تعرف حقيقة الإسهال إلا بذلك.. ومعرفته هذه برهانية توصل إليها بالبرهان؛ وهو مشاهدة الأثر والاستدلال به، مع ضرورة صدق الناقل.. والمعرفة البرهانية من ناحية الحكم والتصديق على قسمين: عقلية، وغير عقلية؛ فالعقلية ما أقنع العقل من حس وخبر واستدلال، وغير العقلية ما لم يقنع به العقل: من حس خاطئ، وشرعٍ مدسوس، وإشراقة كاذبة.. والمعرفة البرهانية هي قوانين العقل، وقوانين العقل على قسمين: قوانين اضطرارية؛ وهي التي تسمى: (أوائل التمييز)؛ لأنها لا تفتقر إلى الحس.. وأما القوانين الاكتسابية فإنها تستمد خبرتها من الحس كقولنا: ما كان تصوره حتمياً فوجوده حتمي؛ فهذا قانون استنبطه العقل بالتجربة الحسية؛ والملاحظ أن قوانين العقل الاكتسابية تستمد برهانها: إما من الحس، وإما من قوانين العقل الاضطرارية.
قال أبو عبدالرحمن: وإذا ذكر لك العقل (والمراد به البرهان لا عموم العقل بملكاته)؛ فالمراد به قوانين الاستدلال الاضطرارية والاكتسابية؛ وإذا ذكر لك الفكر؛ فالمراد به هيئة الاحتكام إلى هذه القوانين، وإذا ذكر لك الذكاء والنباهة والذهن: فالمراد بكل ذلك ملكة الإنسان، وقوة قواه النفسية؛ ولا يحصي معرفة العقل الاكتسابية إلا خالق الخلق ربي سبحانه وتعالى.. ومن مجامع المعارف الاكتسابية الشرع القائم على البراهين المحسوسة، وعلى القوانين الاضطرارية؛ فإن نصوصه باللغة مصدر للبرهان؛ ومنها الخبر الذي يثبت به التاريخ والأنساب والحقوق؛ فيستدل العقل من الحس ومن القوانين الاضطرارية على أن الخبر المتواتر حق.. ومنها علم الحساب؛ فهو مصدر للبرهان؛ لأنه ثابت بالحس وبالقوانين الاضطرارية؛ فكانت قواعد الحساب وأصوله مصدراً للبرهان.. وهكذا جميع العلوم والمعارف البشرية. قال أبو عبدالرحمن: وبناء على أن المعارف إما عقلية، وإما غير عقلية: فإن معارف العقل متنوعة؛ فمنها عقلي بالشرع، وعقلي بالحس، وعقلي باللغة.. وغير العقلي يكون كذلك؛ ويكون غير عقلي لكون الحس كاذباً، أو لكون الشرع مدسوساً، أو لكون فهمنا خاطئاً؛ وإذن فما دام الباعث للفلسفة معرفة الحقيقة؛ وهي لا تجتلب إلا عن طريق نظرية المعرفة: فلا بد أن تكون نظرية المعرفة هي الفلسفة، وهي العلم التأصيلي للمعارف؛ وإلى لقاءٍ في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى, والله المستعان.