قد يطول البحث عن المعنى في هذا الكون الشاسع.. نطرق أبوابًا عديدة، ونبحث بين أوراق الكتب، ونتأمل قصص العظماء، ونصفق للناجحين بقوة، ونتعلم الرسم والفنون، ونكتب الخواطر والأشعار.. كل ذلك لنعرف مَن نكون.
هكذا كانت البدايات، بدايات مَن يبحث عن المعرفة، يبحث عنها في الخارج، وربما يقطع عمرًا وهو تائه بين تقلبات الأيام؛ ليكتشف هذا الإنسان أن ما كان يبحث عنه موجودٌ في داخله. هذا لا يعني أنه سلك الطريق الخاطئ، لا؛ بل هو أساس لكي يدرك الثنائيات والأضداد في هذا الكون، يدرك المعاني العميقة من وجوده من خلال الفرح والحزن، الصبر والغضب، الوحدة والاجتماع، الفصل والاتصال، الصمت والكلام، السكون والفوضى.
نحن البشر لن ندرك إلا من خلال تلك الثنائيات التي تعلمنا كيف نسير ونختار الطريق الجيد لنا، وأيضًا تعلمنا أنه لا شيء مطلق؛ هي نسبية من كل شيء.
تذكرت العالم ديباك شوبرا حينما تحدث عن الظل، وكان يقصد بالظل الجانب المظلم في الإنسان، مثل الغضب أو الحزن أو الانتقام، وغيرها من السلبيات، وأوضح أن الإنسان لديه جانب خفي، لا يعرف عنه إلا صاحبه. وهنا يأتي دور الوعي والنضج، كيف نتحكم بأفكارنا وأفعالنا مع أنفسنا ومع الآخر؟
أثناء بحثنا في الحياة، سواء كنا ندرك بوعي أو لا، ندرك ذلك. نحن نتعلم من خلال التجارب التي نعيشها ونخوضها، التي تحتوي على كل المعاني العميقة للوجود، فنختبر الحب والمحبة، ونختبر النجاح والفشل، ونختبر الصبر والقوة، ونختبر الأخذ والعطاء. وهنا تحدث تقلبات كثيرة، بعضها مؤلم، لكن بعد تجاوز الاختبارات أو الأزمات ندرك حقيقة هذه المعاني جيدًا فننتقل من فهم المعنى إلى تذوق المعنى فعلاً. وهناك فرق بين التنظير والشرح، وأن نعيش فعلاً التجربة ذاتها؛ لذا نجد في التاريخ أن القصص والحكايات التي كُتبت من صلب التجربة كان لها إيقاع أقوى وتأثير على الآخرين.
كلما كان الإنسان صادقًا مع ذاته أولاً سيكون حبل النجاة قريبًا منه كثيرًا حتى وإن غدا هذا الصدق مؤلمًا ستنكشف الحجب والغيوم؛ لتشاهد المعاني العظيمة من هذا الوجود. الله -عز وجل- أعطى الإنسان حرية الاختيار، ومن هذا الاختيار تنبعث العديد من الطرق والمناهج، ويختبرها الإنسان أثناء سيره في الطريق، وكلما صدق زاد وعيه بقيمة وجوده وعظمة رسالته التي من خلالها سيدرك جوهر ذاته. هنا بالذات سيتعلم معنى الإنسانية والوحدة وجمال الروح وتهذيب النفس والرحمة لنفسه وللآخرين.
بعضنا يقع أسير القيود أو الجانب المظلم من نفسه، كأشخاص عاشوا طوال عمرهم وهم يمارسون دور الضحية والسخط على الظروف، ولم يحاولوا أن يكتشفوا العمق في داخلهم. إنهم ذات جميلة، أوجدها الله، وسخر لها كل شيء؛ وكان عليهم أن يبحثوا ويسعوا لكي يتعلموا دون تذمر أو استسلام؛ لذا سنجد في الحياة من توقف ولم يحاول أن يساعد نفسه، واكتفى بالجلوس في المقعد نفسه دون حراك، ونحن ندرك أن طبيعة الحياة الحركة والسعي وطلب الرزق والاجتهاد، وأيضًا المتعة والبهجة والاستمتاع بما سخره الله لنا.
الحقيقة رغم أنها متغيّرة، أي لا توجد حقيقة ثابتة، لكن -كما يقولون- الصدق نجاة، وبالفعل الصدق مع الذات أكبر نجاة؛ إذ يجعلنا نتحمل المسؤولية والأمانة أثناء سيرنا في طريق الحياة، أن نفهم ونتعرف على المعاني العظيمة، وكيف نطور من أنفسنا، وننمو، ونتوسع في هذا الكون الشاسع بمحبة وعطاء وجمال، ولن يكون ذلك إلا من خلال الصدق بالاعتراف بقوتنا وضعفنا، والتعرف على متى نسير ومتى نتوقف ومتى نعمل ومتى نعطي وكيف نتعامل مع الأضداد في حياتنا بين القوة والضعف، والنور والظلام.