د.سالم الكتبي
لطالما أشرت في مقالاتي السابقة إلى أن ما يجري في العلن بين ملالي إيران والولايات المتحدة شيء وما يحدث وراء الكواليس شيء آخر، وأن الشعارات والتصريحات العنترية للملالي لا تعكس ما يضمره المرشد من نوايا وما يمتلكه من براجماتية ستدفعه حتماً لمنح ضوء أخضر للساسة للتوقيع على اتفاق مع إدارة الرئيس ترامب إذا حصل على ما يريد أو واجه ما يخشى عواقبه!
بالأمس، تابعنا جميعاً غزلاً سياسياَ صريحاً ومباشراً بين الرئيس ترامب والنظام الإيراني، حيث شكر الرئيس دونالد ترامب إيران لإطلاقها سراح جندي سابق في البحرية الأمريكية، كانت تحتجزه منذ قرابة عامين، وغرد ترامب في أول تعليق له على إطلاق سراح مايكل وايت، وقال ترامب في تغريدة «شكراً لإيران، هذا يظهر أن عقد صفقة ممكن»، وعلى الجانب الآخر أعلن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عقب إنجاز عملية تبادل سجناء شملت الأمريكي مايكل وايت، مقابل الإفراج عن الطبيب الإيراني المعتقل في الولايات المتحدة مجيد طاهري، إن «هذه الوتيرة يمكن أن تتكرر لجميع السجناء».. مشيراً إلى أن «جميع المواطنين الإيرانيين الذين اعتقلوا في شتى أنحاء العالم بأمر من أمريكا أو داخل أمريكا يجب أن يعودوا إلى بيوتهم»، ما يعني أن الملالي يتمسكون بإبقاء الباب مفتوحاً أمام الحوار مع الإدارة الأمريكية الحالية حتى وإن دار حالياً حول تبادل المعتقلين.
قناعتي أن الجانبين يتشاطران الرؤية نفسها حول إمكانية جلوسهما على مائدة حوار، وأن ما يحدث طيلة السنوات الماضية ليس سوى محاولات لتحسين شروط التفاوض وتعزيزها لحكم أن كلاهما على دراية كافية بمتطلبات الحوار وعقد الصفقات الكبرى، فالنظام الإيراني الذي ظل يحاور ممثلي القوى الخمس الكبرى دائمة العضوية بمجلس الأمن لسنوات قبل توقيع اتفاق «5+1» في عام 2015 بشأن القدرات النووية الإيرانية، ينطلق من عقلية حائك السجاد الإيراني بما يتميز به من صبر ومثابرة وإن طال الزمن في صناعة ما يريد، بينما يمتلك الرئيس ترامب سمات رجل المال والأعمال قناص الفرص، الذي لا يحب ولا يكره، بل يتصرف انطلاقاً من مصالحه ووفق قطع الشطرنج التي تتحرك على طاولة المصالح، فإن رأى فيها ما يغريه بعقد صفقة وتحريك أوراقه فلن يتواني عن ذلك، وهذا ما يفسر مسارعة الرئيس ترامب لاستغلال فرصة تبادل المعتقلين لدى الجانبين لتذكير الملالي بإعجابه بأدائهم التفاوضي في هذه الجولة والإشارة إلى أن هذا الأداء الاحترافي ينبئ بإمكانية عقد «صفقة كبرى»، ولم يخيب الملالي ظنه وإن لم يمتلكوا شجاعة الحديث المباشر مثله، مكتفين بالتأكيد على إمكانية تكرار هذا السيناريو في إشارة تعكس رضاهم عن فكرة التفاوض مع «الشيطان الأكبر» حتى يعود المعتقلين الإيرانيين إلى دياهم كما يتذرع ظريف، أو حتى توقيع صفقة كبرى كما أشار ترامب من دون مواربة.
يجب الالتفات إلى أمر مهم وهو التطابق التام بين تغريدة ظريف التي تحدث فيها عن عودة جميع المعتقلين الإيرانيين لدى الولايات المتحدة أو بتعليماتها بحسب قوله، وبين نص بيان الخارجية الأمريكية الذي قال «هناك المزيد من العمل الذي يتعين القيام به، لن ترتاح الولايات المتحدة حتى تعيد كل أمريكي محتجز في إيران وحول العالم إلى أحبائه»، وكأن هناك اتفاق مشترك على هذه الصياغة بالتأكيد على إمكانية تكرار الحوار بدعوى استعادة السجناء والمعتقلين.
الحوار مع ملالي إيران مثمر بالنسبة لترامب على أي حال، فهو (الحوار) يثمر في حده الأدنى عن الإفراج عن معتقلين جدد يضيفهم إلى إحصاءاته وتصريحاته التي قال فيها «لقد أحضرنا الآن أكثر من 40 رهينة ومحتجزاً أمريكياً إلى الوطن منذ أن توليت منصبي»، وهذا بحد ذاته مكسب سياسي يستطيع ترامب أن يباهي به في حملته للفوز بولاية رئاسية ثانية.
الرئيس ترامب دعا الملالي إلى توقيع صفقة كبرى، معتبراً أن هذا الأمر يبدو واقعياً في ضوء احترافية الجولات التفاوضية المحدودة حول تبادل السجناء.. منوهاً إلى قيام إيران بمفاوضات «منصفة جدا»، بينما رد النظام الإيراني على لسان ظريف بالقول إن العودة للاتفاق النووي ورفع العقوبات مسألة تتوقف على ترامب، الأمر الذي يثير مجدداً تساؤلات حول إمكانية عقد صفقة كبرى قد تدعمها الحسابات المصالحية الخاصة للطرفين.
قد يرى الرئيس ترامب أن عقد ما يصفه بالصفقة الكبرى مع نظام الملالي بديلاً مناسباً لفشل سياساته الداخلية والخارجية ملفات عدة ولاسيما في ظل تدهور الوضع الداخلي الأمريكي وتفجر أزمة العنصرية التي تهدد النسيج الاجتماعي لتضاف إلى خطر البطالة وتراجع أداء الاقتصاد الأمريكي جراء تفشي وباء «كورونا» وتباطؤ الرئيس ترامب في التصدي للوباء منذ بداياته، فضلاً عن التراجع الحاد الذي أصاب مكانة الولايات المتحدة في العالم وتدهور علاقاتها مع الحلفاء والمنافسين على حد سواء، وفشل صفقات أخرى كان يراهن عليها ترامب مثل «صفقة القرن» لتسوية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
على الجانب الآخر، قد يرى الملالي أن الرئيس ترامب يعيش أزمة سياسية خانقة ويحتاج إلى طوق إنقاذ لفرص فوزه بالانتخابات المقبلة في نوفمبر، ومن ثم يمكن انتزاع تنازلات مهمة خلال المفاوضات، خصوصاً أن ترامب يبدو في حالة مزاجية تقبل بتقديم تنازلات كبيرة لإيران على أن يقوم فيما بعد بتسويق الصفقة سياسياً لناخبيه باعتباره انتصاراً مهماً واتهام منتقديها بأنهم يسعون لإفشاله والزج بالولايات المتحدة في حرب مع إيران.
ما يعزز احتمالية بحث الجانبين عن مدخل لمفاوضات أشمل أن مسؤول أمريكي كبير قد عن الأمل في أن يكون الإفراج عن شيوي مؤشراً إلى أن «الإيرانيين قد يكونون على استعداد لمناقشة كل القضايا»، مثل برامجهم النووية والصاروخية، والإفراج عن «الرهائن الأمريكيين» المحتجزين في إيران و»الأنشطة الضارة» لطهران في المنطقة، وقال المسؤول الأمريكي إن «حملة الضغوط القصوى التي قررها الرئيس ترامب تعمل، كما أنها فعالة للغاية».. مشيراً إلى إعلان ترامب أنه مستعد «للقاء الإيرانيين دون شروط مسبقة». وما يعزز ذلك أيضاً هو صمت البيت الأبيض إزاء تحرك ناقلات النفط الإيراني لدعم نظام الرئيس الفنزويلي المناوئ للولايات المتحدة، فيما يبدو أنه منحة سياسية للملالي لتأكيد حسن النوايا. على الجانب الإيراني هناك مرونة وتهدئة واضحة في الخطاب السياسي الإيراني، وفي صمت إيران على الحوار الإستراتيجي بين الولايات المتحدة والحكومة العراقية الجديدة، والذي يعتبره البعض «تمهيداً» أو مدخل لحوار أمريكي - إيراني، أو هو حوار بالوكالة بين الغريمين، وإن كنا لا نميل لترجيح الثانية. وهناك نقطة مهمة تتمثل في أن الملالي ربما يفضلون منح ترامب دعماً قوياً يعزز فرص فوزه بالانتخابات بالنظر إلى انعدام فرص لجوئه للحرب أو اللجوء للبديل الأسوأ -بنظرهم- وهو استخدام القوة ضد النظام الإيراني، فرغم كل شيء يظل الحصار والعقوبات أدوات يتحمل عواقبها الشعب الإيراني لا قادة النظام، فضلاً عن قناعتهم بأن ترامب في ولايته الثانية سيكون أكثر ضعفاً وانشغالاً بملفات أخرى عن إيران وقدراتها النووية والصاروخية.