عبدالوهاب الفايز
في العالم الآن مَن يراقب ويتأمل غير مصدق أن يرى أمريكا تقدم نموذجًا للدولة البوليسية، وتجري فيها أكبر حركة سياسية في تاريخها!
المعجب بأمريكا، دولة العدالة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، يؤسفه تراجع النموذج. والمستثمر يتابع بقلق وخوف ماذا يحدث للاقتصاد؛ لأن لديه ما يخسره من تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية والسياسية. وهذا طبيعي؛ لأن الاقتصاد الأمريكي هو قاطرة الاقتصاد العالمي؛ ولهذا السبب تنازع أمريكا الصين حتى لا تسلبها السيادة والريادة العالمية.
أيضًا العالم يهمه قوة وحيوية المؤسسات العلمية والطبية التي ما زالت تقدم الاختراعات والخدمات الإنسانية والطبية الضرورية لأمريكا وللعالم.
هذا القلق والحذر العالمي يدعمه أيضًا الخوف من تصاعد القوة السياسية للجماعات المسيحية المتطرفة التي تغذي ظاهرة الشعوبية السياسية التي يستند إليها الحزب الجمهوري. فوصول هذه إلى القيادة بأيديولوجيتها المتطرفة سوف يجعل القوة العسكرية مصدر خطر حقيقي على السلام العالمي؛ فقد تعود أمريكا إلى إشعال الحروب والصراعات.
بالنسبة لنا في الشرق الأوسط يهمنا استقرار أمريكا؛ لأن دورها في المنطقة ما زال ضروريًّا لكي تصحح أخطاءها السابقة المتلاحقة في المنطقة. أولها احتلال العراق وتدميره، وتسليمه لإيران التي استخدمت أموال العراق ومليشياته لإشعال الحروب في سوريا ولبنان واليمن. وثانيها تخلي إدارة أوباما عن المنطقة، والتزام القيادة من الخلف الذي أدى إلى انهيار سوريا، وتركها لأطماع إيران وروسيا وتركيا.
ويبقى السؤال: هل ستكون أمريكا قادرة على تجاوز مشاكلها الكبرى؟
أمريكا تواجه ثلاثة تحديات رئيسية: أولها مشكلة العنصرية المتأصلة ضد الأقليات، ومقتل جورج فلويد في مينابوليس الذي فجّر الاحتجاجات، وحوّلها إلى حركة سياسيه، يلتقي حولها البيض والسود، وبلغت ذروتها بالمطالبة بإزالة مئات التماثيل التذكارية داخل مبنى الكونجرس وخارجه التي ترتبط بأشخاص كان لهم دور في تجارة النخاسة وفي مقاومة العبودية. واستمرار وحشية الشرطة والممارسات العنصرية المتأصلة يغذي نزعات العنف والعنف المضاد. وهذه تضع أمريكا في موقف حرج أمام العالم، وتستنفد رصيد القوة الناعمة الذي كان أحد مصادر الهيمنة.
أيضًا هناك تحدي تراجع الطبقة الوسطى، وهذه يتساوى فيها البيض والسود وبقية الأقليات. فتنامي فجوة الدخل أبرز مؤشراته ثبات متوسط دخل معظم العائلات الأمريكية لأكثر من أربعين عامًا، بينما قفزت الثروات، وتكتلت في يد (واحد في المئة) من السكان. أيضًا أمريكا تواجه تحدي الخروج من قيادة التجارة الدولية.
هذه التحديات تتجمع الآن في ظل تنامي حجم التناقضات، واتساع حدة الاستقطاب داخل المجتمع الأمريكي والنخبة السياسية. والمساحة التي كانت تجمع الحزبَين الرئيسيَّين في الأمور والأزمات الوطنية ضاقت تمامًا، ولم تعد هناك نقاشات ورغبة في التنازلات. والرئيس ترامب الآن في صراع مع جميع التيارات الليبرالية الداعمة بقوة لحركات الحقوق المدنية.
الأزمة الحالية أظهرت التيارات السياسية والاجتماعية المتطرفة التي تعلن الآن نفسها بقوة، سواء من اليمين الجمهوري، أو من الشيوعيين، أو دعاة الليبرالية المتطرفة. وهذه التناقضات أصبحت تغذي بقوة أفكار العنف السياسي الذي يعيشه المجتمع الأمريكي.
هل تستطيع أمريكا مواجهة هذه التحديات؟
مستقبل أمريكا مرهونٌ بقوة الاقتصاد وقوة الزعامة السياسية. هذان مصدران للقوة، وتوافُرهما قد يساعد على احتواء تحدي العنصرية. ولكن في ظل الوضع الحالي للإدارة السياسية وللاقتصاد لن يكون سهلاً الحد من العنصرية لتأصُّلها وتعمُّقها في التاريخ والواقع اليومي الأمريكي. فبعد السنوات الطويلة من النضال لم تتحرر أمريكا من هذا المرض المزمن في روحها، رغم الحرب الأهلية المدمرة لإنهاء العبودية، التي ظلت تبعاتها مصدر قلق وتوتر ومظالم لأجيال عدة من الأمريكيين السود.