د.فوزية أبو خالد
فيما يعيش المجتمع الدولي اليوم تحدي إعادة فتح الأسواق ولو بطاقة جزئية لتحريك عجلة الاقتصاد قليلاً، وبينما لا يزال الهواء المحيط بالكرة الأرضية ملوثًا بأنفاس الشك في محاولات العثور على حل طبي وشيك لفيروس كورونا بما يرجح ضرورة التعايش مع مقاييس السلامة القاسية لكوفيد19، بما فيها استمرار التباعد الاجتماعي، والبقاء نسبيًّا في ضيافة الحجر لحين التوصل إلى علاج جذري للوباء في أجل مجهول، نجد أن هناك مَن ينشغل عما ليس في يده بما ما في يده، فيضيء شمعة بدلاً من أن يلعن الظلام، يفتح كوة في الجدار بدلاً من أن يشتكي من رطوبة المكان، ويحيك رئة ثالثة بدلاً من أن يختنق من ضيق التنفس، أو يحفر في وحدته داخل الذات بحثًا عن مياهه الجوفية، أو محاولة لتنقية ذاته من ألغامها المطمورة.
وفي هذا السياق اضطررتُ لاكتشاف تلك «الإيجابية الماكرة» في نفسي التي شعرتُ أن لها ما يمثلها في نفوسنا جميعًا كبشر، بما يتمثل في قدرة الإنسان على تغيير أقدار بأقدار بديلة، بما يلعب اليوم دورًا ملهمًا لأطياف من التجارب الشبابية سعوديًّا وعربيًّا وعالميًّا لاستبدال التباعد الاجتماعي بالتقارب المعرفي عبر مختلف النوافذ الإلكترونية المتاحة. فتتقدم هذه القوى التواقة بكل شجاعة، وفي وضح نهار الحجر، على سرقة شعلة الشعر، أزميل النحت، ريشة الرسم، كاميرا السينما، خشبة المسرح ومعازف الموسيقى؛ لتخلق من هذه الأدوات الناعمة سلاحًا سلميًّا، تشن به حربًا من الفنون والآداب الفتاكة من أجل السلام.
وهنا لا بد أن أعترف بأنني وجدتُ في عدد من تلك التجارب ملاذًا شاسعًا لروحي من منتبذي النيويوركي على ضيقه كفساتين الأميرات عند الخصر، وعلى سعته كتنورة الزار عند الدوران. ولفرط فتنتي بهذا العالم الافتراضي الجديد (الذي كنتُ وجيلي عبر العالم لا ندخله ما قبل الجائحة إلا من باب الفضول أو لضرورات العمل فصرنا إبان الحجر نكاد نعيش فيه, بل إنني شخصيًّا صرتُ أنام وأصحو على همسه وصخبه؛ لتشغلني عن سيارات الإسعاف التي لا تمر ساعة دون أن تعصف أصواتها المريعة بأعصابي، ولتعزيني في ضحايا الوباء الجدد المارين عبر شوارع نيويورك ومظاهراتها بدمي) فقد قررتُ أن أتوقف للكتابة عن عدد من تلك التجارب اللافتة التي جعلتني ببساطتها وعمقها أتحرر من وحشة الجائحة لأحيا لحظات نادرة من الحرية الذاتية والعامة معًا.
ومع أن بعضًا من تلك التجارب يستحق وقفة خاصة به لتأملها، والكتابة عنها بتفاصيل شحناتها الوجدانية والفكرية, فإنني هنا سأكتفي بأن أشير إليها مجرد إشارات عجلى، ليس لضيق الوقت، ولا لضيق المساحة، ولكن للذة الغموض بحد ذاته، ولعذوبة قراءة الشفرة كشفرة نقية من لمسة سابقة.
ومع أن الكثير من تلك التجارب جاءت كخروق إلكترونية أو تخيلية لحالة التباعد الاجتماعي التي فرضتها المتطلبات الصحية لمقاومة الوباء، فلا بد من القول بأنني قد عشتُ بعض هذه التجارب بنشوة تنبع من عالمها الافتراضي نفسه، وليس كحالة تعويضية عن النشاطات المعرفية المعهودة على أرض الواقع. على أنني لن أخوض هنا في الأسئلة التي قد يثيرها مثل هذا الاعتراف عن مسألة التأرجح المقارن المحتمل مستقبليًّا بين العالم الواقعي وبين العالم الافتراضي.
من تلك التجارب:
donia alsaleh @
تجربة الفنانة التشكيلية دنيا صالح الصالح في شجاعتها على اختراق عزلة الأطفال بريشة إبداعية طائشة بإقدامها على تقديم مسابقة تشكيلية للموهوبين الصغار عبر العالم والعالم العربي والمجتمع السعودي. فافتتحت للأطفال, الذين كانوا يعانون بصمت أو ضجيج من قسوة الحجر على طاقتهم الحركية, منصة مسابقات رحبة على اليوتيوب. ولم تكتفِ بذلك بل وظّفت فيها عددًا من مطلات السوشال ميديا؛ لتصل بها للأطفال والمهتمين بهم مثل الفيس بوك وتويتر. ولتوسيع نطاق المسابقة اعتمدت هشتاقات عدة مثل #نرسم للفرح نرسم العيد، ومثل# ملتقى أوراق الورد للإبداع.
المدهش أنني على عمري المعتق أصبتُ بعدوى الانعتاق من جدران البيوت من متابعة رسومات الأطفال وحديثهم عن أنفسهم وتجاربهم التشكيلية الصغيرة عبر اليوتيوب.
adab@
موقع أدب، وهو موقع متميز من منصات الإبداع الأدبي والنقدي على منصة تويتر، ويتمتع بمليونَي متابع، وقد استطاع منذ بدء الحجر على حد علمي أن يجمع باقة كبيرة منهم عبر تطبيق زووم في عدد عريض من اللقاءات الافتراضية الحيوية التي تنوعت أطيافها من الشعر إلى النقد الأدبي.
Ithra@
يبدع مركز الملك عبدالعزيز الثقافي في مجالات عدة، وعبر العديد من منصات التواصل الاجتماعي، في الكيد للجائحة والتباعد الاجتماعي بالتواصل المعرفي. ومع أن هذا المقال معني في الأساس بتسليط الضوء على التجارب الأهلية التي جاء الكثير منها بمبادرة فردية، وباجتهاد عفوي، وبجهد شخصي محفوف بقلوب وعقول مستنيرة، تؤمن بقدرة المجتمع المدني - ولو بجهود فردية - على تقديم مشاركة وطنية في المجال الثقافي, فإن مبادرة «إثراء» في إطلاق عقال البطولة من معهودها النجومي المتعالي، ورؤيتها كفعل إنساني يومي، تجعلني أخرج على النص، وأشير بقوة إلى مبادرة «أبطالكم أبطال الوطن» التي أضاءت بطولة كوادر المرور على الطرقات، وكوادر الصحة في المستشفيات، وكوادر الجيش على جبهة نجران، وغيرها من الكوادر التي تقوم ببطولات خارقة في حياة الوطن اليومية إبان الجائحة.
cinemaclub2030@
أشير أيضًا إلى نادي السينما عن جمعية الثقافة والفنون بالأحساء في إقدامه على بثّ لقاءات افتراضية باستخدام تطبيق زووم، مثل ندوته يوم السبت الماضي عن صناعة الأفلام الوثائقية للمخرج الشاب أحمد الشايب التي تلخصها تلك الكلمة المكثفة «لا تصنع محاضرة، اصنع قصة»، بما يصح فيه أيضا كلمة «لا تنقل واقعًا جامدًا، صور قصيدة».
وأجد في السياق نفسه رغبة في إضاءة التجربة الفريدة لشباب المسرح الذي اجترح نصب خشبة مسرح على الفضاء الافتراضي، ودعا فيها المشاهدين لمتابعة أول مسرحية سعودية عبر تقنية زووم.
هناك لقاءات افتراضية ونشاط إلكتروني في مجالات معرفية وثقافية متنوعة، منها - على سبيل المثال - أمسيات شعرية وموسيقية مصاحبة، مثل مبادرتَي (إكسير الشعر) بمشاركة 25 شاعرة وشاعرًا من السعودية والخليج، ومثل (مهرجان شرفات الشعري العالمي الأول) بمبادرة الشاعر علي الحازمي، بحضور 42 شاعرًا من السعودية ومن 27 دولة حول العالم, وندوات علمية (فريق موسوعة أبحاث)، حلقات نقاش (المنتدى النقدي) بمبادرة د. سعد البازعي، وورش عمل حية (أسبار) بمبادرة د. فهد العرابي الحارثي, ومجموعات حوار مكثفة (منتدى آصرة الثقافي) بمبادرة د. عبدالله الحمود. واللافت أن هذه المطلات الافتراضية تتسم بالتفاعل الحيوي، وبمشاركات اختيارية من قِبل عشاق نوعها المعرفي، كما تتسم بأن الكثير منها يأتي بناء على جهود فردية ابتكارية باجتهادات من أجيال متعددة عبر تطبيق برامج، مثل زووم وتلغرام وسواهما من منصات التواصل الاجتماعي التفاعلي.
وإذا كنتُ قد اقتصرت الحديث في هذا المقال على اللقاءات الافتراضية التي جاء أغلبها بالمجتمع السعودي فإن هناك خطوطًا موازية لها على المستوى العربي والعالمي من محاضرات علمية ومن لقاءات شعرية وأدبية، كنتُ قد ذكرتُ عينة منها وبعض مشاركاتي فيها عبر كتابات سابقة، إلا أنني سأذكر لقطة أو لقطتَين إضافيتَين لبعض مبادرات فردية منها بأشكال مختلفة، ومن ذلك:
mymodernmet@
عبر هذا الموقع يمكن الاطلاع على رسالة معلمة الأطفال الهولندية التي كتبتها بخيوط الصوف وأعواد الخشب، وحاكتها بالكثير من الحب على هيئة لعبة تمثل كل منها تلميذًا من تلاميذها الثلاثة والعشرين؛ لتقول لهم عبرها إنها تشتاق إليهم، وإنها رغم التباعد الاجتماعي والانقطاع عن المدرسة لم يغِب عنها أي منهم. والملهم أن هذه المعلمة لم يكن لها تجربة سابقة في «صناعة اللُعب»، بل تعلمت أسرار تلك الصنعة خصيصًا إبان الحجر؛ لتُفشي لتلاميذها الصغار وللعالم أجمع سرًّا خطيرًا خالدًا من أسرار العملية التعليمية، هو أن عمل المعلم رسالة وليس وظيفة.
وهذا النوع من أجنحة الفرح المتحدية للجائحة المخترقة للتباعد الاجتماعي ما لمسته رغم عمري المعمر عندما استلم صغيري محمد عبر البريد طردًا صغيرًا لقصة أطفال كهدية له مع بطاقة جميلة خاصة به مكتوبة بخط اليد من معلمته بالمدرسة، تسر له فيها كم تفتقد شقاواته، وكم أنها معجبة بانتظامه اليومي في فصول التعليم عن بُعد، وبتحمله في هذا العمر الطري وحشة الحجر والبُعد عن أصدقائه الصغار. موقعة باسمها Mollie Auerbach.
Virtual expiation@
يقودنا هذا الموقع عبر حاسة البصر لنشاهد معرضًا تشكيليًّا افتراضيًّا بعنوان تصنيع الأسطورة في جولة مفعمة بمفاجآت الخيال والظل التي يحرض جمالها حاسة السمع والشم واللمس والحدس لتذوقها عن بُعد.
يبقى أنني لن أختم المقال قبل الإشارة لتجربة الشابة بشرى العقيل التي استطاعت أن تصادق فقدان البصر بدل الشعور بالنقمة عليه بتحويله إلى حالة من الثقة والاعتزاز بالذات، وحالة من الإنجاز والنجاح؛ فقد قامت بشرى بحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب في مدة قياسية عبر التعلم عن بُعد.