رجاء العتيبي
إذا قرأت كتاب (رحلة بين قرنين) للشيخ/ محمد بن إبراهيم الخضير، أحد أهم مؤسسي التعليم الأهلي للبنات بالمملكة, ستعرف أنك أمام رجل ملهم, رجل يفكر بطريقة مختلفة، شخصية تمتلك استراتيجيات ذهنية غير ما تراه لدى أقرانه في ذلك الوقت, فما الذي دعاه إلى أن يفتتح مدارس التربية النموذجية عام 1378هـ/ 1958م في الرياض؟ كأول مدرسة أهلية للبنات في منطقة الرياض, في ظل ظروف اجتماعية لا تحتفي بهذا النوع من التعليم.
الكتاب الذي صدر مؤخرًا عن العبيكان للنشر والتوزيع في 168 صفحة يوضح رحلة علمية لرجل عظيم، لم يضع في ذهنه سوى (التعليم) باعتباره نافذة لكل تطور اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا.
رأى وهو صغير، وعمره 6 سنوات، في (الخبراء بالقصيم) أن الناس تقدّر العلماء والقضاء والمعلمين, فتساءل: لماذا يحظى هؤلاء الناس بالاهتمام الاجتماعي؟ جاءته الإجابة بأنهم (تعلموا) فنالوا ما نالوا من الحظوة والرفعة والتأثير. يقول: «منذ ذلك الوقت عرفت أن العلم يرفع شأن كل شخص, فوقر في نفسي أن أتعلم, وقررت أن أسلك له الطرق الممكنة».
إذن، وهو صغير لمعت في ذهنه رؤية, تشكلت فكرة عظيمة, رأى مستقبلاً لم يره المحيطون به, لم يسأل, ولكن تساءل, عرف الإجابة، وانطلق لمزيد من الإجابات، حمل نفسًا كبيرة, فأتعب من أجلها جسمه النحيل, الذي تعرض للكي أكثر من مرة؟
ظلت رؤيته تحفزه باستمرار لأن يقطع الفيافي والديار متنقلاً بين الرياض والخرج والظهران؛ لأن قريته الصغيرة (الخبراء) لم تعد تلبي طموحه الكبير. غادرها في مغامرة شبه مجهولة وسط قلق والدته وأسرته, واجه في رحلته كل الصعاب, حتى بات لاحقًا معلمًا للغة الإنجليزية في شركة أرامكو, وكان في وقت فراغه (يتطوع) بتعليم زملائه في العمل وبعض الأصدقاء القراءة والكتابة واللغة الإنجليزية.
لم يستمر طويلاً معلمًا في أرامكو؛ إذ انتقل إلى الخرج لأحد مشاريع أرامكو التنموية, وهو في طريقه للمشروع رأى صغارًا في الصباح يلعبون في الشارع، فتساءل: لماذا لم يذهبوا للمدرسة؟ قالوا المدرسة بعيدة عنهم. لم يهنأ له بال حتى بنى لهم مدرسة في السهباء بالخرج بالتعاون مع شركة أرامكو.
انتقل للرياض, واستمر في وظيفة حكومية هنا وهناك حتى استقر في جامعة (الرياض) مديرًا للشؤون المالية والإدارية، ولكنه لم يترك تأسيس المدارس الأهلية. ظل متابعًا لمدارس التربية النموذجية حتى استقال وتفرغ لإدارة المدرسة, لم تكن التجارة هاجسه، ولكنه رأى أن يعمل في المقاولات حتى يتمكن من دعم فكرته الأصلية التعليم الأهلي.
في رحلة بين قرنين أسس رجل الأعمال الشيخ/ محمد بن إبراهيم الخضير منظومة تعليمية أهلية تعد أهم روافد التعليم في المملكة, توجها بشركة عائلية مقفلة، تجمع كل الشركات التي يملكها بأنظمة حديثة، لاقت استحسان وزارة التجارة, وأدرجت في سوق الأسهم كأول شركة تربوية خليجية في مجالها تدخل هذا النوع من الأسواق, وأكمل أبناؤه وأحفاده بعد تقاعده رسالته التعليمية، وتوسعت معهم إلى مدى أعلى وأكبر وأشمل، تدعم نمو الاقتصاد الوطني في مجال التعليم الأهلي.
لم يترك الشيخ/ الخضير بلدته الصغيرة رياض الخبراء؛ ظل على علاقة بها؛ ففي كل مرة يقدم لها خدماته التعليمية وأعماله الخيرية وتبرعاته المالية وفاء لهذا المكان، وتقديرًا لأهله وناسه وجماعته ووطنه.
الكتاب ينطوي على رحلة شيقة طويلة في مجال التعليم الأهلي, تبيِّن كم كان هذا الرجل عظيمًا. ففي كل أرض وطئها أنشأ مدرسة, يغادرها ويترك خلفه جيلاً من المتعلمين والمتعلمات. حفظه الله ورعاه.