أ.د.عثمان بن صالح العامر
بعث لي صديق عزيز على قلبي مقطع فيديو لرجل لا أعرفه ولأول مرة أشاهده، يذكر هذا المتحدث عن نفسه أنه (عاش في الغرب سنين طويلة، ويحلف بالله أنهم -أي الغرب- ما عمرهم طلبوا ممن يتقدَّم للهندسة والطب المجموع، فهم عندما ينجح الطالب من الثانوية العامة ويتسلّم شهادته يختار الكلية التي يرغبها، وهو وشطارته! أما نحن في العالم العربي فنطلب للهندسة والطب مجاميع عالية، والسر في ذلك -كما يدّعي هو طبعاً- أن المستعمر لما دخل الدول العربية قبل مائتي سنة حب يقتل الإبداع فيها فسعى جهده في إقناعنا أن أفضل مهنتين الطب والهندسة حتى ينصرف أبناء العرب نظير انشغالهم بعملهم الشاق عن تطوير المجتمعات، والكليات التي تغير المجتمعات تقبل أي مجموع، والآن أتت هذه السياسة الاستعمارية ثمارها للأسف الشديد).
وعقب صاحبي على الفيديو المرسل برسالة قصيرة هذا نصها: (أبا صالح: أستاذنا في التربية والتعليم، هل في كلامه مبالغة تغذيها نظرية المؤامرة أم هو فعلاً نتاج فكر دول الاستعمار)؟
رددت على الرسالة بقولي: (لا أعتقد أن للاستعمار أو غيره هذا الدور الكبير المباشر في صرف أبنائنا نحن العرب عن التخصصات الإنسانية على وجه العموم، ولكن ميل دول العالم الثالث ومن بينها عالمنا العربي إلى دخول مضمار السباق الحضاري لا الثقافي جراء الطفرة النفطية جعل هناك مزايا للتخصصات العلمية مادية ومعنوية، رسمية وشعبية، الأمر الذي ولَّد عند الشاب والفتاة الميل للانخراط في هذه التخصصات، وصارت المفاضلة تفرض أخذ الأعلى والأميز، وهذا في النهاية أدى إلى أنه لا يتخصص في الإنسانيات عموماً إلا الأدنى معدلاً في الثانوية العامة، إلا طبعاً ما ندر ممن يختار التخصصات ذات المنحى الإنساني بناءً على رغبة وميول ويعرف قبل أن يدخل الجامعة أنه يريد الشريعة أو التربية أو الثقافة أو علم الاجتماع وهكذا، والنتيجة الطبيعية ضعف التكوين الثقافي وهشاشة البناء المعرفي الإنساني في كثير من هذه الدول، الأمر الذي أدى إلى استجلاب النظريات والفلسفات الإنسانية من الفكر الغربي سواء في باب التربية أو الاجتماع أو النفس أو القانون أو السياسة أو الاقتصاد أو الإعلام أو التسويق أو ما إلى ذلك، وبهذا صار هناك سوق رائج للفكر الوافد ولم يكن ثمة صناعة محلية للعلوم الإنسانية إلا عند البعض وباستحياء، باستثناء العلوم ذات الصلة المباشرة بالقرآن والسنة وكذا التخصصات العقدية والشرعية التي ظلت محفوظة بحفظ الله لمرجعيتها وبمحافظة هذه البلاد المباركة المملكة العربية السعودية خاصة على منهج السلف وعنايتها بالوحيين، ولذا ظل استهداف هذه الدولة حامية جناب التوحيد مستمراً للإضعاف ومن ثم الإحلال والإبدال، وأن لهم ذلك ونحن في ظل قيادة حكيمة عظيمة تولي هذا الأمر جلّ اهتمامها، وفي وطننا المعطاء علماء أفذاذ انبروا للتعليم والتأليف والاجتهاد والتجديد في هذا الباب المهم الذي تنال به سعادة الدارين الدنيا والآخرة، وإلى لقاء، والسلام.