د.عبدالله بن موسى الطاير
من اليسير جداً أن توجد منصة تقرَّر فيها الصواب والخطأ، مفترضاً أن صنَّاع القرار مغيبون. الأمر ليس كذلك؛ صانع القرار يفوقك بحجم المعلومات ولكنه يصطدم بالمستحيل عندما يبدأ تحويل المعرفة إلى سياسات. قديماً قال ليندون جونسون: «من السهولة أن تقول لرجل اذهب إلى الجحيم، ولكن إرساله إلى هناك أصعب بكثير». مثل ذلك أن يكون لك منبر تعلن منه حلول مشكلات الشأن العام كما تتصورها، دون وعي منك بتعذر تنفيذها حتى لو نصوبك وزيراً في مجال اختصاصك.
كتب صامويل هنتنغتون أن تركيا «بلد ممزق» وأن المخرج الوحيد يقتضي التخلي عن مبادئ أتاتورك، وصرف النظر عن حلم الانضمام للاتحاد الأوربي، وترشيد شغفها بأن تكون عضواً غربياً متخلفاً، ونصحها باستدعاء «إرثها التاريخي» والتربع على هرم العالم الإسلامي بقيادة ذات شرعية وتوجه إسلامي. كلام هنتنغتون مجرد رأي تحليلي لوضع تركيا قبل 25 عاماً، فكيف تحول الرأي إلى سياسات؟ وكيف تمكن حزب العدالة والتنمية من تحويله إلى خطة؟ وماذا تطلب الأمر لبدء تنفيذه؟ وضع بعض المفكرين الأتراك السياسات المناسبة، وصاغوها على نحو يضمن تنفيذها مستخدمين المنابر المناسبة وجماعات الضغط والمصالح ووظّفوا الحراك الاجتماعي، واستفادوا من البنى التحتية والمشاعر الإسلامية الموجودة في المجتمع التركي، والرافضة للتبعية الغربية، ثم بدأوا التنفيذ بكل مخاطره. ومن أجل أن تتربع تركيا على «هامة العالم الإسلامي» لا بد أن تزيح من طريقها قوى أخرى ذات شرعية ومصداقية، وأن تصطدم بمصالح دول عظمى وإقليمية.
ظروف العرب وإمكاناتهم واصطفافهم وتنافسهم، وكيدهم لبعضهم البعض حال دون وضع سياسات كفيلة بإحباط مخططات الطرف الآخر. لذا مالت الدول العربية فرادى إلى ردود الأفعال، وبعد كل رد فعل يركنون إلى الدعة «اليوم خمر وغداً أمر»، بانتظار المصيبة القادمة.
لم يكن سراً أن الشرق الأوسط مقبل على التقسيم، ونشرت الخرائط، فأخذت تلك المعرفة والتحليل على سبيل تعذّر التعذر؛ فالعراق كان موحداً مستقلاً رغم الحصار، وسوريا في أوج قوتها، وفلسطين موحدة المقاومة، وزخم أوسلو ما زال قوياً، واليمن واحدة آمنة مستقرة، وكانت ليبيا، ومصر في أفضل حالاتهما، فالربيع العربي لم ير النور بعد. وكتب أحد الباحثين الغربيين بأن السعودية لن يدافع عنها الليبراليون وإنما السلفيون ذو البأس الشديد في القتال، وكان هذا إبان طفرة العمليات الإرهابية التي استهدفت المملكة ومصالحها، والتي أحال الكثير من المحللين أسبابها على التعليم الديني، والتشدد المذهبي فكان مصير هذا الرأي التجاهل لعدم سلامة الظروف التي قيل فيها، ولأن الدولة مؤمنة بأن جيشها المحترف هو المؤسسة الوحيدة المنوط بها الدفاع عن سيادة الدولة وأمنها واستقرارها.
وعندما نشر جورج فريدمان كتابه المعنون المئة سنة القادمة عام 2009م، ذكر أن الشرق الأوسط سيشهد أكبر وأخطر مرحلة دموية في تاريخه وأن ذروتها ستكون عام 2020م. وسمى المؤلف منافسو النفوذ الأمريكي على أنهم روسيا واليابان وتركيا. فهل وضعت دول المنطقة سياسات بناء على هذا التحليل؟
المعرفة والتحليل السياسي متاحان، ولكن وضع سياسات المواجهة وتحمل مخاطرها وكلفتها هو موضع النقاش في دوائر صنع القرار في ضوء ضبابية مواقف الدول العظمى، وعدم الثقة المتبادل بين الدول الضحية. فإما أن تُقدِم تلك الدول على خراب مستعجل بصياغة سياسات تعتبرها الدول العظمى معارضة لمصالحها، أو أن تحافظ على الأمن والاستقرار والرخاء بشراء الوقت، على أمل أن تتغيّر الظروف؟ قبل أن نلوم من بيدهم الأمر ينبغي أن نتصور تعقيدات المشهد ومخاطر الحلول.
هل يعني هذا أن الأتراك تفوقوا على العرب؟ الأمر ليس بهذه البساطة لأن مدخلات المقارنة غير متماثلة. تركيا دولة واحدة تتحدث عدة لغات. والعرب 22 دولة تتحدث لغة واحدة. تركيا تعرف الأصدقاء فتمد معهم الجسور، وتعرف الأعداء فتحتاط منهم. الدولة الناطقة بالعربية لا تعرف عدوها من صديقها من بين الدول الناطقة بالعربية إلا من خلال تسريبات التآمر والخيانة التي يكشفها الوقت أو مخابرات الدول «الصديقة».
خاتمة القول: الدول العربية بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة مفهوم الدولة، وأن تكون الدولة الوطنية محور القوة ومركز التموضع بدلاً من الشعارات التي لا تسمن من جوع، ولا تحمي من عدو. لا يجب أن يدفع الجيل الذي يتطلع للحياة ثمن أخيلة العصر القومي البائد.