حسن اليمني
لا أدري ما الذي اعتراني لكشف أسراري «الخطيرة» أمامكم، لكن يبدو لي أن الحجر الصحي ما يستدعي للقفز للأعلى بحركة فجائية ربما تعطي صوتاً من هنا أو هناك، أعرف أنها حالة استدعاء ضحك الآخرين بما يسمى «خفة دم» مصنوعة من قار أسفلت وخليط أسمنت، لكن نحتاج أحياناً للخروج من ثقل العقل.. وبالمناسبة أنا من أشد الكارهين للعقل وتنفر روحي حين ينصحني أحد بالتعقل، وأفهم أني لا أعني لكم شيئاً فيما أحب ولا أحب لأنكم تمارسون العقل والتعقل في قراءة مقال بجريدة، اللوم والعتب على مسؤول التحرير الذي أجاز المقال ونشره.
كنت في صغري مولّعاً حد الهوس بالفنان محمد عبده وحين خرج ذات مرة على الشاشة بأربعة أزرار تسمّرت عيناي متسائلاً في داخل نفسي كيف يتنفس؟.. وفوق هذا يغني، لكني سارعت لتفصيل ثوب بأربعة أزرار فأنا كما قلت مغرم بطرب هذا الفنان لكني ما كنت ألبسه إلا حين يغيب والدي -رحمه الله-، ليس تعقلاً ولكن خوفاً ورهبة, وبين التعقل والخوف علاقة وطيدة كأنهما زوجان حسب المذهب البروتستانتي، وهو مذهب سَمِح عكس المذهب الكاثوليكي (النشبة) والنشبة لمن لا يعرفها هي مختصر للتشابك والالتصاق البغيض وتطلق أحياناً على اللقافة والتدخل فيما لا يعني.
وحين بلغت وأصبحت أترنم وأميل بقليل من الاستحياء لجمال العباءات النسائية السوداء التي تخفي في جوفها ما يوجع مقلة عيني ربما لأن قوة الشباب تحث على الاكتشاف والبحث فيما خلف الأشياء، لا أدري لكني صرت أترنم بجمل تبدو متناسقة فاكتبها على قرطاس دفتر كقصائد، وأعجبت بها حداً ما من إعجاب، وكنت أخفيها ولا أظهرها لأحد ليس عقلاً ولا تعقلاً ولكن خوفاً من السخرية، ومع هذا تخايلت أن محمد عبده هو الذي يغني حين كنت أغنيها وأسجلها في شريط (كاسيت) يعرفه صحبتي من زمن الطيبين، ثم استمع لصوتي فيزيد إعجابي بطرب محمد عبده فأنا من شدة الانغماس في إعجابي بفنه وأدائه أراه وأسمعه يتغنى بكلماتي ولحني، يقال إن هذا نوع من أنواع الهوس والجنون لكني كما قلت سابقاً لا أحب التعقل والعقل وإلا كيف يقال إن فيروز أفضل من محمد عبده؟ أين العقل هنا؟ ربما صوتها جميل لكن كنت في ذلك الوقت أراها «مصلاً».. ولفظ «مصلا» لفظ شعبي دارج في زمن الطيبين وتقوله للأنثى التي لا تقدر على كسبها لتحفظ كبرياءك، وكان الكبرياء للمراهق مسألة حياة أو موت، فهو الذي يحمي الفراغ الأجوف في العقل الذي كنّا نملأه بالنفخة الفارغة التي تسمى اليوم هياط بعد أن تطورت ثقافة المجتمع وتحول (العربجي إلى درباوي) كأنها مرحلة الانتقال من سواقة الحمار الذي يجر العربة إلى سواقة السيارة المسروقة، تحول في المصطلحات اللفظية يسمى اليوم اختلاف ثقافات.
سأكشف لكم سراً آخر لكني أريد أن يسرقه مني الاسترسال، فقد ثقل عقلي وعقّد لساني حتى شعرت وكأني أكتب سيرة خالد بن الوليد، ولا أدري لماذا اخترت خالد بن الوليد -رضي الله عنه- ولم يخطر بذهني نابليون مثلاً، قد يكون لاختلاف الثقافات لو لا أني أعرف أن من يتحمل تفاهة هذه السطور هم في الغالب حصراً من صحبي في زمن الطيبين لا أهل هذا الزمان فهؤلاء لاهون في «النتفليكس» منشغلة أذهانهم بين قراءة الترجمة ومتابعة أحداث المسلسل، والحقيقة فأنه استوقفني لفظ «أهل هذا الزمان» وشعرت كأنه يضع بدل العقال عمامة وأنا راكب على ظهر ناقة وأقول ناقة ولم أقل مطية حتى اختصر تفسير الماء بالماء فمن يدري فقد يظهر من يقول: قل بعير وخلاص وش (مسوي فيها قصة) اختلاف الثقافات يبعد مسافات الفهم، وعلى قول أمي -رحمها الله-: (يا غريب كن أديب).
أن تعيش مخيلة جيلك في حياة جيل أصبحت فيه مثل القربة الجلدية معلق في زاوية متحف وتقف حسناء بحياء تشرح لك كيف كانت حياتك وهي تبتسم بسرور وكأنك لازلت برحابة نفوس الطيبين الذين يشربون منها الماء الأصفر المطعم بريح الدهن وأنت تنظر إلى علبة الماء المعقمة في يدك ربما تساءلت بينك وبين نفسك: هل تعرف هذه الترفه كيف كنّا نسبح بالغضارة في برج الحوش.
بالمناسبة حين يقولون عنّي أني من «جيل الطيبين» أشعر بالعقل وكأنه يزيد ثقله على رقبتي فأحرك رأسي يمنة ويسرة فأتفاجأ بهم يضحكون وحين أستفهم يقولون: وش فيك صرت هندي؟