بدون أيّ مقدمات أو تصفيف كلمات سأكتب مشاعري تنطلق كما هي من قلبي إلى قلب سعوديتي. وأبدأ مخاطبة قيس العاشق المتيم بليلى العامرية. عفواً يا قيس عندما أردد معك «وما حب الديار شغفن قلبي.... ولكن حب من سكن الديار». وإن اختلفت معك هنا في مبدأ أين يكون الانتماء هل لديار؟ أم أهل الديار؟. يبدو أنك يا قيس لم تدرك ولم تشعر بمشاعر الانتماء الروحي للوطن والديار، وأن هناك نوعاً جديداً من المشاعر أسميته في قاموسي نشوة الشفاء الروحي؛ وهي مشاعر لحظة هبوط الطائرة السعودية رقم SV 118 من مطار هيثرو إلى مطار الملك خالد الدولي.. رقم هذه الرحلة سيظل مميزاً في ذاكرتي. لقد كان أيضاً في اليوم السادس من الشهر السادس، وإقلاعنا الساعة السادسة مساء. ورقم «ستة» في فلسفة معاني الأرقام هو التمام والكمال. فكان يوم التمام والكمال لحظة وصولي من بلد الابتعاث إلى أرض الوطن.
سأشرح لك يا قيس يا ابن الملوح ولو بعد حين وسيصلك الرد، لأنه كما يقال الأرواح في عالمها الأثيري تتواصل.. سأحكي لك الحدث، ولماذا أختلف معك يا عزيزي في مسألة الانتماء الروحي. فعندما هبطت الطائرة واستقبلتني الديار بدون أهلي بسبب إجراءات جائحة كوفيد، وإن كنت لم تسمع بها. ففي زمننا هذا لدينا كوفيد منع الأهالي من استقبال أحبابهم في المطار، ومنع أحضان الوداع والاستقبال في الأماكن والمطارات. فكان هناك اختبار للمشاعر مجرد من كل العوامل المؤثرة الأخرى، ولم يكن هنا إلا عامل واحد بلغة البحث العلمي هو المتغير الرئيس، ألا وهو الديار التي استقبلتني، وكان الشعور في هذا الاستقبال مختلفاً، ونتائج اختبار هذه المشاعر مبهرة وشافية لروح طالب علم مغترب أنهكه التعب.
شعرت أن الوطن بأكمله والسعودية من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها كانت في استقبالي.. وهذا شعور كل عائد إلى موطن روحه وأصل انتمائه.. شعر كل راكب منا أنه ضيف مميز، ويمشي على سجادة نجوم هوليود الحمراء، وأن هناك فلاشات حب وترحيب واطمنئان من كل مَن استقبلنا، ابتداءً من صعود الطائرة إلى لحظة استقرارنا في الفندق.
كان ممر الوصول جد طويلاً، مما أتاح لي فرصة التقاط جميع فلاشات الشفاء والسلام في المطار.. بعد كل مترين كان هناك جندي من جنود الوطن يقول: (حيّاكم الله والحمد الله على السلامة).. كان الشعور كشعور العروس التي تمشي بخيلاء وكبيرياء في ممر الزفة الطويل والجميع يلوح لها ويصفق.. لذلك يا قيس كان استقبال الديار مختلفاً وجميلاً كنشوة شفاء الروح برغم من عدم تمكن أهلي من استقبالهم لي.
أستأذنك يا قيس سأخاطب أيضاً العالمة والكاتبة الشهيرة (استرهيكس) التي درست وفسرت لنا المشاعر البشرية في تسعة كتب وفصلت في ذلك، ولكن لم تتطرقي يا هيكس لمشاعر نشوة الشفاء الروحي في سلم المشاعر المميز الذي اشتهر باسمك. دعيني أشرح لك هذا التصنيف الجديد من المشاعر، فهي ترددات عالية جداً وشعور بأن الوطن كله كان في استقبالنا وهو شعور يصعب وصفه.. هو أعلى مستوى المشاعر. فلقد صنفتِ أن البهجة هي أعلى مستويات المشاعر البشرية، ولكنني أضيف بأن شعور نشوة الشفاء الروحي أعلى من البهجة.. فهل سيحسب لي ذلك براءة اختراع؟.. لا يهم، أنا يهمني أنني عشت تلك المشاعر الوطينة.. فلقد تميزنا بحب قيادتنا لنا وحبنا لهم. هل هناك من تفسير يا عزيزتي هيكس.. كيف أننا نشعر أن السماء صافية والجوّ ربيع برغم أن الجوّ الحقيقي المادي المرئي هو صيف حار وغبار. فنحن كبشر له جسد بعده أجساد فهناك جسد مادي يمثل الواقع الذي نعيشه ونراه وجسد مشاعري تقوده المعتقدات والأفكار، وجسد روحي يسبح في عالم أثيري.. وكل هذه الأجساد مرتبطة ببعض ومكملة للآخر، فعند حدوث أيّ مشكلة أو حدث مرئي نعود لجسد المشاعر والأفكار والمعتقدات لنتعرف على سبب الحدث المتجسد في الواقع المادي الذي نراه ونعيشه.. فإذا كانت المشاعر نشوة شفاء روحية بترددات وذبذبات عالية والروح تسبح في فضاء عالم أثيري أخضر كوطني، يصبح الواقع الملموس المرئي ربيعاً والوقت نهاراً والسماء صافية، بالرغم من أن الواقع المشاهد يشير إلى أن الوقت كان ليلاً والجوّ كان صيفاً؛ هذا تفسيري.. فهل ينطبق مع نظريات وفلسفة المشاعر في كتبك؟.
شعرت يا هيكس ويا قيس أن الشوارع تتراقص فرحاً مستبشرة متفائلة وأنوار الشوارع براقة مبتهجة، وأن للوطن أيدي كبيرة جداً تحتوينا، وبالرغم من التباعد الاجتماعي والظروف الاقتصادية والتوقف المؤقت للحياة إلا أنني شعرت بحضن الوطن الدافئ وأيديه الكبيرة المعطاءة. وكان الانتماء والسكون والاطمنئان الروحي في الوطن هو الشفاء ولو بوجود الداء وانتشاره.. لأن ترددات الحب والاطمنئان عالية مخيمة على أرضنا، فهناك في فضاء الوطن حماية ربانية وتناغم شعب مع قيادته، والجميع يد واحدة لذلك ستمضي هذه الأيام، وستكون أرضنا وكوكبنا الأرضي دائماً بخير -بإذن الله-.
** **
* محاضر بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن - طالبة دكتوراه في التأهيل الطبي - المملكة المتحدة