لا يستطيع باحث في التاريخ الفكري القديم، وتلاقي الثقافات والفلسفة أن يتجاهل تراث مدرسة الإسكندرية القديمة التي أسّست بعد عهد الإسكندر المقدوني (ت 323 ق. م.). وكان لخلفائه البطالمة في مصر همةٌ قويةٌ جعلتهم لا ينظرون إلى الإسكندرية؛ لتكون عاصمةً عسكريةً أو مقراً لمملكتهم وتوسعاتها فقط، بل عاصمةً للثقافة العالمية في تلك العهود. وربما كانت فكرتهم أن تكون موقعاً لسيادة الفكر اليوناني والثقافة اليونانية في العالم القديم، والتي كان ينظر إليها على أنها أعلى نتاج للفكر البشري حينذاك...
في مثل هذا المناخ قبل الميلاد جدّت هذه المدرسةُ في إنجاز أعمال فيلولوجية عظيمة لتوثيق التراث القديم، والسعي إلى تحديد منهج دراسي ينظم العلوم القديمة كالطب والفلسفة والهندسة ...واختصار الكتب المطولة ليسهل انتقال العلوم، ولتتعلم منها الأجيالُ اللاحقة. وذلك على النحو الذي حدث لاحقاً في التراث الإسلامي حين بدأت ظاهرة التخليص والاختصارات بعد المطولات.
أثرت هذه المدرسةُ العريقة على تراثنا وثقافتنا تأثيرات كثيرة جداً، بل أثرت في حضارة العالم القديم كله؛ فقد رسمت الخطوط العريضة للتراث الكلاسيكي وجمعت مصادره، وهذبت نصوصاً علميةً وفلسفية مهمة، وترجمت نصوصاً دينية من أهمها التوراة السبعينية التي ترجمت من العبرية إلى اليونانية أيام بطليموس الثاني في القرن الثالث ق.م واستمرت هذه المدرسة حتى القرنين الرابع والخامس الميلاديين، ثم اندثرت مادياً، ولكن بقي تأثيرها الفكري والفلسفي والعلمي والديني ممتداً على الفكر اليهودي ثم على الفكر المسيحي ثم على المسلمين في ذيول فكريةٍ طويلة ظاهرة أحياناً كالخطوط وخفية أحياناً !
ونجد أثر ذلك لدينا في بعض مذاهب المسلمين خاصة الفرق المهتمة بتأويل النصوص والمذاهب والطرق المهتمة بالروحانيات ...وهذا كله كتب فيه بعض المستشرقين والعرب دراساتٍ عديدةً، ولكن مع ذلك بقي في هذا الباب الكثير مما ينبغي أن تعرق في بحثه جباه الباحثين والباحثات اليوم ! وأنا على يقين أنهم سيفاجأون وسيفاجئوننا بالنتائج العلمية لأي بحوث جادة، فالتراث الفكريّ يتسرب بين الحضارات بصورة خفيةٍ كقطرات الماء بين الصخور، على نحوٍ غير واضحٍ أحياناً، وليس الفكرُ مثل التراث المادي تراه ظاهراً بيّناً فتلمسه بيديك وتدرك فيه وجوه التشابه بصورة سهلة !.
وأثرت هذه المدرسة أيضاً في تصوّرنا للعلوم القديمة والتاريخ القديم؛ فإن الحضارة الإسلامية لم ترث التراث اليوناني مباشرةً، وإنما جاء إليها عبر مسارب من هذه المدرسة المصرية، وفي مسارب أخرى من بلاد الشام خاصة، ومن العراق وأطراف بلاد فارس.
وبعض المعلومات التي وصلتنا عن التاريخ الأدبي والديني القديم قبل الميلاد تأثرت باجتهادات وتلفيقات جاءت من تراث مدرسة الإسكندرية... وسبب ذلك في اعتقادي يعود إلى أنّ هذه المدرسة بعد أن تحول العالمُ القديمُ إلى المسيحية، تأثرت هي بالدين، فوجدت نفسها في مأزق بين الفكر اليوناني الوثني القديم، والفكر الديني المسيحي الجديد، فأرادت أن تمسّح الهلينية اليونانية لتكون غير متعارضة مع الدين، فخرجت بنتائج ونصوص عديدة من الحكم والسير والأقوال المتعلقة بالفضيلة والجزاء والعقاب من الله والدين وما أشبهه مما ليس له وجود في الحضارة اليونانية الأولى، ونسبتها إليه.
والذين يتهمون المسلمين زوراً بإحراق مكتبة الإسكندرية حين فتحوا مصر يجدون مشكلةً في تعليل سبب قبول المسلمين لهذا التراث بعد اطلاعهم عليه، ونقله في كتبهم، اعتماداً على التراث الإسكندري دون ارتباطٍ بالمصادر اليونانية القديمة. وهذا ما جعل هذه الظواهر الثقافية الإسكندرية تتسرب إلى التراث الإسلامي. ومن ذلك أنك تجد في الثقافة الإسلامية أحياناً كتباً كاملةً، وقصصاً عديدة منسوبةً إلى الفلاسفة والقادة والحكماء من العهود القديمة كأرطوطاليس وأفلاطون وفيثاغورس ...وغيرهم وهي غير صحيحة ...كما تجد مزيجاً تاريخياً من العلاقات المزعومة بين الفلاسفةِ والأنبياء القدامى -عليهم السلام- كداود وسليمان ويوسف ويحي وغيرهما. وسبب ذلك أنه تم تعديل صورة أرسطو وأفلاطون ليصبحا قريبين من الإيمان ومن الدين، وإثبات الألوهية وغيرها من المسلمات الدينية ...وهذا كله من نتائج محاولة الإسكندرية المتأخرة لتطويع التراث اليوناني، ثم تسرب ذلك من كتبهم إلى المجاميع التي وصلتنا من كتب المقتطفات والنقول وخاصة في كتب الحكم والمواعظ والنصائح بدءاً من المترجمين في القرن الثالث ثم لدى غيرهم من أدباء العربية كأبي عثمان الجاحظ (ت 255 هـ) وأبي الحسن العامري (ت 381 هـ) وأبي سليمان المنطقي (ت 392 هـ) وأبي حيان التوحيدي (ت 414 هـ) وأبي الفرج بن هندو (ت 420 هـ) وأبي عليّ مسكويه (ت 421 هـ) والبيهقي (ت 565 هـ) والقفطي (ت 646 هـ) وغيرهم. وكانت هذه الصورة التي وصلت عبر المترجمات كاملةً أحياناً وناقصة أحياناً أو مزيدةً أو مشوهة أو منحولةً ما يثبت ظاهرة القراءة الجديدة للتراث اليوناني التي قام بها علماء مدرسة الإسكندرية وأعلامها الأولون. ومن بعد ذلك تراجعت الثقافة القديمة والفلسفة في الحضارة الإسلامية لأسبابٍ عديدةٍ لعلنا نتحدث عنها في مقالٍ لاحق.
** **
- د. أحمد بن محمد الدبيان
arabic.philo@gmail.com