أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
في الديمُقراطيَّات العُظمى المعاصرة -ذات السياسات التطفيفيَّة- قد يُنسَف البَشَر، والمدن، والتراث؛ تُدمَّر (فيتنام)، و(اليابان)، و(أفغانستان)، و(العراق)، وغيرها.. قد يُهلَك الحرث والنسل والثقافة والمتاحف والمكتبات، ويُحرَق الأخضر واليابس؛ للاعتقاد بأن القَدَر يحتِّم أَمْرَكَةَ العالَم. وإلى ذلك تُبتكَر الساديَّة، حتى في عالم الحُبِّ، و»النيكروفيليَّة»، وتُستعاد من العهود الوثنيَّة عقيدة أكل اللَّحم المقدس، الذي يُكسِب آكلَه صفات ألوهيَّةٍ طوطميَّة، بعد الانحدار بتلك العقيدة إلى الاعتقاد بأن أكل لحوم السُّود يقوِّي حياة الرجل الأبيض ويطيل عمره! (1) ولا أكلَ للَّحم بغير ذبح، أو حتى خنق، على طريقة الضابط الأميركي (ديريك تشوفين)، الذي بَرَكَ بركبته على رقبة (جورج فلويد)، في (منيابولِس)، بولاية (مينيسوتا)، 25 مايو 2020، حتى لفظَ المسكينُ أنفاسه. ويبدو أنَّ هذه باتت الطريقة الأميركيَّة الحداثيَّة لتذكية الأضاحي، في القرن الحادي والعشرين: (2014: إرك غارنر، 2020: جورج فلويد)!
- قال عدوِّي الحميم (سيف بن ذي قار):
إنَّما هو صراع ثقافات، وإديولوجيَّات، وبِيضٍ وسود، وغربٍ وشرق، لا صراع حضارات. ولا شأن للأمر بدعاوَى الإنسانيَّة والحُريَّة، ودع جانبًا غيرها من الدَّعاوَى المخمليَّة الزائفة. المشكلة تكمن في الاشمئزاز من ثقافة الآخَر، التي لا تتماثل، ولا تمتثل لثقافة الغالب، التي يعتقد أصحابها أنها بيضاء من غير سوء، وهي أقدس من مقدَّسات المتديِّنين، والدُّول الدِّينيَّة.
- أراك بدَورك مشمئزًّا من ثقافة الآخَر! لا تنهَ عن خُلقٍ وتأتي مثله!
- أتعُدُّ تلك ثقافة؟
- وما تعُدُّها؟
- إنْ قصدْنا بالثقافة ما يسود مجتمعًا من خيرٍ وشر، صحَّ المصطلح. أمَّا إنْ كانت الثقافة تعني: الحقَّ والخيرَ والجمال، فتلك سخافة، أو ثقافة غاب، بمعنى أنها عادات الإنسان البدائي، آكل لحوم البَشر.
- ولَستَ بِمُستَبقٍ أَخًا لا تَلُمَّهُ ... عَلى شَعَثٍ؛ أَيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ؟!
- ما أودَى بنا في الدواهي إلَّا الأمثال المتوارثة ومخدِّرات الشِّعر الجاهلي.
- كيف؟
- «أَيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ؟!» دعوةٌ لإماتة الحِسِّ النقدي، وتقبُّل الحال على ما هي عليه. فما عليك إلَّا أنْ تَلُمَّ الشَّعْثَ، وعدم التهذيب، لتستبقي أخاك، أو حتى عدوَّك؟!
- لا تكبِّر السالفة!
- فيا مَوْتُ زُرْ؛ إنَّ الحياةَ ذَميمَةٌ ... ويا نَفْسُ جِدِّي؛ إنَّ دَهرَكِ هازِلُ!
- أعوذ بالله! خلِّ بالك، هذه قد تُعَدُّ دعوةً إرهابيَّة!
- لا أقول إلَّا بإيقاظ الوعي، ونبذِ الثقافة الإمَّعيَّة، وعروبةِ القطيع، وترديدِ الببغاوات.
- خُش في الموضوع!
- أنا في حَبَّة قَلبه. إن الصورة النمطيَّة عن مجتمعاتنا العربيَّة أنها مجتمعاتٌ غير متحضِّرة، كارهةٌ للآخَر. ومع ذلك فإن المرأة الغربيَّة -مثلًا- حينما تكون في بلدٍ عربيٍّ لا يُفرَض عليها لباسٌ معيَّن، ولا تُلاحَق في المراكز التجاريَّة، ولم نسمع أنَّ امرأةً عربيَّةً محجَّبةً متشدِّدةً لاحقت امرأةً غربيَّةً في أحد الشوارع لتستر شَعرها أو وجهها أو حتى ساقيها العاريتين، غصبًا عنها، كما حدث من العجوز الباريسيَّة (مارلين روبي)، حينما لاحقت سيِّدةً إماراتيةً في أحد أسواق (عاصمة النور: باغي!) فاعتدت عليها، ومزَّقت نقابها! أيُّ الثقافتَين، إذن، هي أكثر تعصُّبًا، وأيُّ الشَّعبَين أكثر عقلانيَّةً، وحداثةً، واستقامةً تربويَّةً، وقبولاً للآخَر؟! كما أنَّ المرأة الغربيَّة لا تُغرَّم هنا لعدم التزامها بتقاليد البلد، في اللِّباس؛ فهُنَّ يسرحن ويمرحن ويتمخترن في كلِّ مكان! والسؤال هنا: أيُّ الطَّرَفَين عنصريٌّ، إقصائيٌّ، وراديكالي؟!
- أنت طبعًا، أقصد نحن! السبب واضح، وهو: أن «الألب يعشأ كل قميل»، والمغطَّى ليس مليحًا دائمًا!
- الطريف أنهم يصوِّرون الفِكرَ الشَّرقيَّ على أنه فِكرٌ استعبادي، وهم إنَّما يهدفون إلى إنقاذه من براثن التقاليد؛ بهذا يَجترُّون اسطوانتهم القديمة خلال القرن الماضي وما قبله، التي أَدْلَوا فيها بالحُجَّة عينها، فاستعمروا العالم على أساسها، حينما قالوا: إنَّها شُعوبٌ مغتصَبةٌ بثقافاتها، متخلِّفة، ويجب تحريرها وتطويرها، ولا سبيل إلى ذلك إلَّا باستعمارها! والحقُّ أنَّ الهدف استعبادها، وابتزازها، لا تحريرها. ويبدو أن الإنسان، عمومًا، سيظلُّ جاهليًّا متطرِّفًا، كلًّا على طريقته، أو قل: دجَّالًا كبيرًا في أغلوطاته؛ فهو حتى مع مبدأ العلمانيَّة أو الحُريَّة يوظفهما لقمع الحُريَّة والعلمانيَّة، وحسب مهابِّ أهوائه. وإلَّا ما الفرق بين خطابٍ غربيٍّ أو مستغربٍ يصف العربَ بأنهم ظلاميُّون، راديكاليُّون، إرهابيُّون، فيما هو يمارس ذلك بالفعل، ومن خلال خطابه نفسه، حين يصفهم بتلك الصفات؛ فيمثِّل، هو الآخَر، ظلاميَّتَه في رفض القبول بالآخَر المختلف، وتكفيريَّتَه، على مذهبه في النظرة إلى تقاليد الشُّعوب الأخرى ونعت أهلها بالنقائص. على أن راديكاليَّته هو وإرهابيَّته لا تأتي على مستوى الأفراد والجماعات فحسب، بل تأتي أحيانًا كثيرةً على مستوى المؤسَّسات والقوانين والدُّوَل أيضًا!
- يا سيف، ما لك هكذا تتحامل على هؤلاء الذين علَّموك الحضارة، وأمدُّوك بالتقنية؟
- إنَّ إلزام الناس بزِيٍّ محدَّد - لا تقتضيه طبيعة أعمالهم - هو محض تخلُّفٍ استبداديٍّ تقليديٍّ، لا مسوِّغَ له أصلًا، لا منطقًا ولا واقعًا، وحيثما وُجِد ذلك فهو ظاهرةٌ غير حضاريَّة، ويُزاوِل مهنة جَبْرٍ بدائي.
- يا أبا المهنَّد، القوم ليسوا بأغبياء، غير أنَّهم يخافون من الظواهر الدِّينيَّة الإسلاميَّة، وما تُفرِزه من عمليَّاتٍ إرهابيَّة، لا تُنكَر، وأوَّل من اكتوى بنيرانها العرب والمسلمون.
- صدقتَ، ليسوا بأغبياء، لكن الأغبياء من يصدِّقون تعميماتهم! الدِّين - في ذاته - اعتقادٌ، وفِكرٌ، وثقافة. وإذا كنَّا سنفرز الناس بحسب معتقداتهم، فلماذا لا نفعل ذلك مثلًا: مع الماركسي؟ ونستشهد بما فعله جلاوزة الرُّوس بالعالم. لماذا لا نفعل ذلك مع العلمانيِّ المتطرِّف؟ ونستشهد بما فعله الغرب بالعالم. ثمَّ قل لي: أليس الكيان الصهيونيُّ مؤسَّسًا على أساسٍ دِيني، من ألفه إلى يائه؟ ولو لم يكن كذلك، ما كانت دولته المحتلَّة لأرض (فلسطين)، أصلًا، ولا استمرَّت؟ ولن أستشهد لك هنا إلَّا بتحليلات أحد أبناء القوم (سيجموند فرويد، -1939)(2) حول سِرٍّ من أسرار بقاء اليهود التاريخي، ومقاومتهم للفناء، وتغلُّبهم على الشعوب، من خلال الثقة بالتميُّز الذي رسَّخته فيهم عقيدتهم، بأنهم «شعب الله المختار». وعلى هذا المعتقد جمَّعوا أتباع دِينهم: من (الخَزَر)، و(التاميل)، و(الألمان)، و(الفلاشا)، و(الرُّوس)، وغيرهم، واحتلُّوا بهم أرض العرب، التي لا علاقة لهم بها، إلَّا في دعوَى احتلالٍ عتيقٍ أيضًا، كان قبل ثلاثة آلاف عام.
- مساكين هؤلاء، لا تستطيع أن تُنكِر أنه لم يقيِّض الله لهم نابغةً صهيونيًّا يهديهم سواء السبيل، بمثل قول نابغتنا:
ولَستَ بِمُستَبقٍ أَخًا لا تَلُمَّهُ ... عَلى شَعَثٍ؛ أَيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ؟!
** **
(1) انظر: العكش، منير، (2009)، أميركا والإبادات الثقافية، (بيروت: رياض الريس)، 41.
(2) انظر: (1986)، مُوسَى والتوحيد، ترجمة: جورج طرابيشي (بيروت: دار الطليعة)، 146.
(العضو السابق بمجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود)
p.alfaify@gmail.com
https://twitter.com/Prof_Dr_Alfaify
http://www.facebook.com/p.alfaify