عبد العزيز الصقعبي
غادرت البيت اليوم بعد حجر تجاوز الشهرين. كنت خائفاً من كل شيء؛ هنالك عدو غير مرئي ولكنه قاتل. هذا الشعور مسيطر علي. أضع كمامة، وألبس قفازات، وأنظر لكل شيء بارتياب. لا أريد أن أقترب من أحد ولا أحد يقترب مني. لم أفكر في أن أستقل سيارتي، بل فضلت أن أمشي في الحي الذي أعيش فيه. أنا بطبيعتي منعزل، لا علاقة لي مطلقاً بالجيران، وأعتقد أن أغلبهم لا يعرفني. لم يسبق لي أن مارست المشي في شوارع الحي وأزقته، ولكن هذا اليوم لدي الرغبة في أن أمشي، لدي متسع من الوقت كي أسير بهدوء، وأشاهد كل شيء عن قرب، وليس من خلف زجاج السيارة. الحي الذي أقطنه من الأحياء الحديثة نسبياً؛ لذا فكثير من الفلل متشابهة، والشوارع غالباً خالية من المارة إلا ما ندر، والأسوار العالية تحيط بأغلب المنازل؛ لذا فلا أحد يرى الآخر أو يلتقيه. أمشي وأتوجه إلى شارع لم أذكر مطلقاً أنني مررت به وأنا أقود سيارتي. شارع صغير فرعي، محاط بالصمت. فوجئت بأن ذلك الشارع يختصر الطريق للوصول للشارع الرئيس التجاري الذي به مجموعة من المحال. أذكر دكان الحلاق الذي يحتاج لأخذ موعد نظراً لكثرة زبائنه من الشباب. «لديك موعد»؟ قال لي أحد العاملين به. فقلت مباشرة «لا»، وغادرت المكان مقرراً عدم المجيء إلى ذلك المحل مرة أخرى. كان ذلك منذ سنة تقريباً. الآن هو مغلق. كم عدد المواعيد التي أُلغيت. يوجد أكثر من صيدلية في الشارع، ومحل تموينات كبير، في ركن منه قسم لبيع الخضار والفواكه. أنا فقط أريد أن أمشي، وأشاهد كل شيء عن قرب. قررت أن أتجه لشارع به عدد من الفلل الكبيرة، هي أقرب للقصور، كنت أرى أبواب أغلبها مفتوحة وأنا أمر بسيارتي في ذلك الشارع، لا مجال للاختصار؛ يجب أن أسير قرابة الكيلو حتى أصل لمدخل الشارع. وصلت، وواصلت المشي بهدوء بجانب تلك الفلل الكبيرة. أبوابها مغلقة، قرابة الساعة وأنا أمشي، لم أقابل أي كائن حي، حتى القطط التي أزعجتني بوجودها قبالة بيتي غير موجودة. الساعة الآن العاشرة صباحاً، والطقس معتدل.
لم أفطن لعدم وجود الناس إلا بعد أن فوجئت بأن تلك الفلل مغلقة أبوابها باستثناء فيلا تعتبر أكبرها مساحة وفناء، حيث أرى أحيانًا مجموعة من السيارات داخل الفناء، وهنالك خيمة كبيرة في الخلف، لم يمر يوم وأنا أعبر ذلك الشارع بسيارتي إلا وأرى عدداً كبيراً من الرجال بأعمار مختلفة يتحركون داخل وأمام البيت. وذات مرة توقفت أمام البوابة الكبيرة، ورأيت الخيمة عن كثب وبها مجموعة من الرجال يتناولون القهوة. توقفت تلك المرة قسراً بسبب اعتراض سيارة الطريق. كانت تنتظر سيارة أخرى تخلي لها موقفًا قرب البوابة.
اليوم الباب مفتوح، ولكن لا أثر للسيارات داخل أو خارج ذلك الفناء، والخيمة مهملة. أردت أن أتجه للداخل، ولكن خفت. اقتربت قليلاً من البوابة، سرت ثلاث خطوات للداخل، وفوجئت بأن البيت الذي كان عامراً بالناس أصبح مهجوراً، لا أثر للحياة فيه، الأبواب مشرعة، النوافذ مفتوحة، وأجهزت التكييف منزوعة من أماكنها. قررت أن أبتعد. لا يوجد أي لوحة توحي بأنه للبيع، تمنيت أن ألتقي أي شخص لأسأله عن هذا البيت الكبير، لأقل له «هل هو للبيع»؟ لكن لا أحد. بإمكاني أن أمشي إلى نهاية هذا الشارع، وأتوجه يميناً لأصل إلى شارع يفضي إلى بيتي بعد قرابة الخمسمائة متر، لكن قررت أن أعود للشارع التجاري مرة أخرى. أقترب من الصيدلية، لست ملزماً أن أدخلها، لكن لا يمنع أن أدخل عندما يلوح الصيدلي لي بيده. لا بأس أن أدخل وأشتري معقمًا، أو أي دواء، أو شامبو، أي شيء أجده متاحاً أمام عيني، المهم أن أرى أحداً، بالذات الصيدلي أتحدث معه، أو أكتفي برؤيته فقط، إذا لم ينظر إلي وانصرف إلى عمله، ويكون ذلك أفضل، وبعد ذلك أذهب إلى محل التموينات. أنا كنت أعتمد في الفترة السابقة على سائقي الخاص، هو الذي يحضر لي كل شيء، لأبقى بأمان في بيتي، ولكن لا يمنع أن أشتري بعض الأشياء، خضار فواكه، معلبات، حلوى، لبن، حليب. البيت ليس بعيداً، وحمولة تلك المشتريات لن تزعجني. وصلت الشارع التجاري، في هذا اليوم يفقد هذه الصفة؛ لا سيارات تتحرك. بالمناسبة لم أشاهد أثناء المشي من بيتي إلى هذا الشارع الذي استغرق قرابة الساعة أي سيارة أو عربة أو دراجة نارية تمرّ، لا أحد، لا يوجد غيري يمشي في ذلك الشارع. اقتربت من الصيدلية، لا أحد داخلها، حتى الصيدلي، الباب الزجاجي مفتوح. دخلت، ربما هو بالداخل، لكن لا أحد، رفعت صوتي منادياً «يا دكتور»، لا أحد يجيب. غادرت المكان وتوجهت إلى محل التموينات، لا يوجد أحد مطلقاً، سرت بين الرفوف والممرات، لا أحد، كل شيء موجود، منتجات زراعية ومواد تجارية، ولكن لا يوجد بائع، لا أحد، غادرت ذلك الشارع خائفاً، أين الناس، حرصت أن أعود عبر ذلك الشارع الفرعي لمنزلي. وصلت، فتحت الباب، وتوجهت إلى مكان به مرآة كبيرة، بالقرب من مغاسل لليدين، وبجانبه حاوية زبالة صغيرة، نزعت الكمامة، والقفازات، توجهت لمغسلة الأيدي؛ لأستخدم الماء والصابون حرصاً على النظافة، فوجئت بأن المرآة لا تعكس غير الجدار، اتجهت مباشرة للمرآة الكبيرة عند المدخل، أنا غيررئي؛ لقد اختفيت.