سهام القحطاني
الصراع بين الألوان والعقائد صراع تاريخي؛ لأن المرء يظن أن الكمال لا يتحقق إلا بالتفاضل وهذا المبدأ أنبنت عليه عقيدة العنصرية وهو في كليته غير منفي لكن مصدر التشكيل وما يترتب عليه من مؤشرات هما النفي الذي يورث العداء والعداوة.
إن جدولة التفاضل بين الناس هي جدولة واقعية مضبوطة بالقيمة والنفعية لذا تظل تلك الجدولة بهذين الضابطين أساس رقي الإنسانية لأنها حافز للمنافسة والتطور والترقي، لكن متى ما انحرفت عن غاية حصول القيمة والتطور والترقي تحولت تلك الجدولة إلى محرض على العنصرية والعنف والإرهاب ومُفسدة لإنسانية العدالة والمساواة. الأشياء التي قد تبدو لنا صغيرة أو تافهة هي دومًا التي تفجر الثورات لأنها غضب متنامٍ.
لم تكن القيمة في المقعد، بل في الدلالة التي يمثلها ذلك المقعد ولذلك فجر ذلك المقعد الثورة ضد العنصرية، وإضراب طويل أوجب تغيير قوانين حقوق الإنسان في أمريكا، من هنا بدأت حكاية السيدة «روزا باركس» التي أصبحت أيقونة الاضطهاد العنصري في أمريكا، ورمزًا عالميًا لمقاومة العنصرية.
فهي كما قالت لم ترفض التخلي عن مقعد الحافلة لأنها متعبة جسديًا، بل لأنها كانت متعبة من الاستسلام والرضا بالواقع، فالألم هو الذي يِشجعنا على الرفض والمقاومة، لذلك قررت أن تستبدل الرضا بقول «لا» لنفي وجودها وقيمتها وحقوقها لمجرد أنها خُلقت ببشرة سوداء، تلك «اللا» التي تحدت قانون «جيم كرو» المُشرّع للفصل العنصري بين البيض والسود، تحديًا خلق تاريخًا جديدًا للسود في أمريكا.
ولدت روزا باركس في ولاية ألاباما وهي إحدى الولايات الأمريكية التي كانت تطبق قانون «جيم كرو» وعانت منذ طفولتها من التمييز العنصري فكل شيء كان يُقسم من غير أنصاف بين البيض والسود، مما جعلت حياة السود أشبه بلعبة شطرنج، فأحاط الخوف بكل رجل أسود، خوف من أن يُقتل أو أن يُسلب ماله، أو أن تُغتصب زوجته أو أخته أو ابنته فلا يُحاسب القاتل ولا السالب ولا المغتصب لأنه رجل أبيض.
شكّلت التفاصيل الصغيرة إدراكها بأنها تعيش في مجتمع ظالم يقيس قيمة الإنسان باللون ويُؤسس المراتب والدرجات من خلال اللون، تفاصيل كما رسخت الشعور بالاضطهاد فجّرت في ذات الوقت غضب الرفض والمقاومة.
لم تكن الحافلة التي تمر كل يوم أمامها لتحمل الطلاب البيض إلى المدرسة في حين أن على الطلاب السود أن يذهبوا سيرًا على الأقدام مجرد وسيلة مواصلات بل كما قالت «أسلوب حياة» يُرسخ في ذهن الطلاب السود أن هناك إنسانًا درجة أولى وهناك آخر درجة ثانية وما بينهما الأرض التي يمشي عليها السود ونوافذ الحافلة التي يطل منها الطلاب البيض كل يوم للتأكيد على أن البيض درجة أعلى من السود هذه الدلالة التمثيلية هي التي خلقت إدراك روزا باركس كما تقول «بوجود عالم أبيض وعالم أسود».
كان كل السود يتعرضون للتمييز العنصري في أمريكا ويتعرضون عشرات المرات للطرد من مقاعدهم من الحافلات ليجلس عليها البيض ولعلهم آمنوا بأن وجوب الرضا لهذا الواقع هو قدرهم إلا امرأة واحدة رفضت الرضا بالواقع لأنه لا يمثل حتمية القدر بل يعبر عن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان لذا قررت المواجهة لأنها متيقنة أن الجميع ينتظر الخطوة الأولى ليصطفوا أمام ظلم قوانين العنصرية وقد كان ذلك، فجاءت حادثة مقعد الحافلة ليفجر الغضب المختبئ داخل كل رجل وامرأة ذنبهما الوحيد أنهما خلقا ببشرة سوداء ومع حجم الغضب وجحيمه إلا أن تلك المقاومة التي فجرتها «لا» السيدة باركس ظلت سلمية خالية من العنف.
وفي عام 1955م وفي ظل محاكمة السيدة باركس بتهمة العصيان لأنها رفضت التنازل عن مقعدها في الحافلة لرجل أبيض، وصدى صوت»اللا» التي أسمعت أمريكا من أقصاها إلى أقصاها، ظهرت أول ثورة سلمية للسود في الجنوب الأمريكي من خلال مقاطعة حافلات مونتغمري التي كان يقودها مارتن لوثر كينج الابن الذي أصبح فيما بعد أيقونة النضال ضد العنصرية.
وبعد براءة السيدة باركس من تهمة العصيان تقدمت بطلب إلى المحكمة الاتحادية بإلغاء قانون الفصل العنصري، وأصدرت المحكمة الحكم بعدم قانونية التفرقة العنصرية ليعود بعدها السود إلى ركوب الحافلات، وهو حكم أرهص لظهور قانون الحقوق المدنية عام 1964م لإنهاء التمييز العنصري ضد السود، ولتُصبح السيدة روزا باركس كما وصفها الكونجرس الأمريكي «أم حركة الحقوق المدنية المعاصرة»، التي قالت عنها كونداليزا رايس في تأبينها «إن لم تقم باركس بتحريرها السود فربما لم أكن موجودة الآن كوزيرة خارجية».
فالتفاصيل الصغيرة المؤلمة غالبًا ما تخلق وعيًا جديدًا، هذا ما نتعلمه من قصة «لا» للسيدة باركس.