بكت جدتي دون أن نسمع لها صوتا أو نشيجاً لكن الدمع الذي انهمر كان دلالة فاضحة، لم يجرؤ أحدنا أن يعرف مصدر هذا البكاء الصامت وسببه،كانت التجاعيد التي ألفنا محبتها مليئة بماء العينين الصافي، بطرف (شيلتها) المضمخة بالطيب والكادي وعطر ليالي باريس الذي تحبه يملأ الأرجاء، وفجأة فإذا بابتسامة جذلى تعيد ملامحها التي نعهدها تكسو وجهها.
قال أخوها الذي يكبرها سنًا وهو نائب القبيلة ومرجعها الرسمي لكنه يقدرها لفطنتها وذكائها الفطري: زرعت في قلوبنا الهلع يا بنت علي، الله يهديش. ثم أردف بلغة الاستفهام: خير... منتظرًا الإجابة. قالت بحزن حارق: بعت بقرتي اليوم في سوق الاثنين، ثم عاودت البكاء وعم الحزن أجواء المجلس الذي تشرف نوافذه على السوق وجلست بجانب إحدى النوافذ الشرقية برهة من الزمن طالت وكأنها تبحث عن بقرتها لعلها تشاهدها للمرة الأخيرة، لكن ذلك لم يحدث فعادت خائبة وندت عن صدرها تنهيدة مجروحة.
ومن اشتراها يا بنت علي: كان السؤال هذا يجيش في الصدور، قالت اشتراها (بن يعن الله) من أهل المسقي كانت تقولها وبارقة تلوح في خاطرها والمسافة إلى المسقي ليست بالبعيدة، وخاطر يمثل لها أملاً أن تراها مرة أخرى وتلمسها وأردفت: بالتأكيد تتذكرني جيداً.
التفتت صوبنا علها تلاحظ عونًا لها منا لكن لم تجد شيئًا، عاودت النظر من خلال النافذة تارة أخرى فإذا أصوات السوق تضمحل شيئاً فشيئاً ولا يقطع هذه الوحشة التي سقطت سوى نباح كلب عابر أو مواء قطة أضاعت طريقها.
ران على المشهد صمت مستفز لجميع الأطراف. عاودت النظر للوجوه المحيطة بها بناتها وأحفادها والوجه الذي تحبه وجه أخيها وكبرياؤه التي تكسو ملامحه وتمنحه صرامة وجدية في ملامحه وهو لا يبتسم إلا نادراً.
ولا أحد يبصره ضاحكًا إلا مع الأطفال القادرين وحدهم على نزع ابتسامته انتزاعاً وبرضاه. أحضرت الجمر الذي أشعلته في (الملهب) وملأت به (الصلل) في ركن المجلس وطلبت إحضار دلة القهوة ووضعتها بين الجمر الملتهب وطلبت براداً للشاي وزادته سكراً، وهي تحدث نفسها: يحبونه حالي وأضافت أوراق (الحبق) لمنحه الرائحة المبتغاة وطيف ابتسامة تلوح على وجه النائب المتكئ على جانبه الأيمن يرقب المشهد في هدوء غريب متوجساً على غير العادة.
سكبت من الدلة فنجانًا مترعًا وناولته إلى أخيها وهي تقول: يمينك يا أبا سعيد، أخذ الفنجان قائلاً: إكرمها (بنت علي).
عادت ملامح وجهها إلى (ملحها) الذي عهدناه وافتر فمها الصغير عن ابتسامة صادرة من القلب، عاود الهدوء يغزو ملامح الجميع، ونهضت إحدى بناتها إلى (الملهب) لإعداد طعام العشاء وقد سمعت صوت بنت علي: كثري اللحم وكبري (جنبة العصيدة) والمرق، به ضيف سيأتي هذه الليلة ولابد من إكرامه، التفت إليها النائب:
من هو؟ الله يحييه ومرحباً به ألف.
لا زالت تحرك الجمر وصبت لأخيها فنجانًا آخر، شربه دفعة واحدة وقال: أكرم يابنت علي.
كان منتظرًا الإجابة بشغف، وقال: عبدالرحمن يأتي من (تمنية) في ذا الليل؟ لا وأنا أختك، عبدالرحمن عنده عمالة رجال ونساء قدموا من (المشرق) وتعرف هذا وقت الحصاد وقد يستمرون عدة أيام. قالت ذلك الحديث ووجهها يضيء بابتسامه فاتنة.
بناتها الثلاث يملن إلى الصمت الكامل احترامًا وتقديراً لخالهم ومكانته الأسرية والاجتماعية. هبت تلك الليلة رياح باردة والبرق ينير الأنحاء وصوت الرعد وصداه بين شعوف الجبال وبطون الأودية التي ترقب في شوق جارف السيول، ذلك العشاء، والذي تعده (بنت علي) وبناتها القادمات من (أبها) والجميع يترقبون بشوق جارف معرفة الضيف المجهول، البنات اللواتي فقدن حسهن القروي بعد هجرتهم للمدينة أصبحن يتأففن من هذا الهدوء القاتل الذي يبدو جليًا على وجه الأم ومربكاً لهن في كيفية التعامل بدون كسر خاطرها.
انتظرت إلى حزة العشاء ونظرت إلى البنات بنظرة آمرة لتقديم الوجبة بعد أن شعرت بتململ أخيها وخشيت أن يذهب إلى قريته التي لا تبتعد كثيراً عن قرية آل فرحان.
النوافذ الشرقية والشمالية مفتوحة والبرق يضيء من وقت لآخر والنائب يرفع صوته كلما سمع هزيم الرعد مكبرًا ومهللاً ويطلب من الله أن يكون مطر رحمة، ويخشى من تكاثر السيول والتي قد تدمر (البلاد) وتفسد المحصول.
دنوا على العشاء فيما هم منغمسون في تناول الطعام وإذا بمخلوق صغير يشبه الفأر يحوم فوقهم ويزرع الهلع في قلوب الأمهات والأطفال والضجيج يتعالى وفوضى عارمة تربك المكان، ما عدا (بنت علي) وأخيها وابتسامة تلوح على شفتيهما ودعاء بالرحمة يمنح المكان طقساً أسطورياً، وتعلق طائر العِشاء مقلوباً وسط السقف ممسكاً بأخشاب السقف، وصاحت (بنت علي) بإحدى بناتها احضري بقية الحناء و(المكحلة) و(المرود) وطلبت من أخيها الإمساك بطائر العِشاء، أمسك به وقامت (بنت علي) بوضعه بين كفي (أبو سعيد) وقامت بوضع الحناء في مخالبه، وكحلت عينيه وهي تبتسم ابتسامة عريضة ودافئة وهي تردد: هذا ضيفنا الذي كنا ننتظره، وهزّ رأسه والحبور يملأ وجهه، أما الأطفال فقد دخلوا غرفة المبيت وأمهاتهن يخرجن واحدة تلو الأخرى والفزع يكاد يخرج من أعينهن، ثم ما لبثن أن سألت أحداهن: وما هي الخطوة الثانية؟
سألت والخوف يهز جسدها، اتجه أبو سعيد إلى النافذة الشرقية وأطلق (طائر العِشاء) إلى جوف الليل البهيم الذي يهتك ظلمته البرق الذي يخلب العقول.
سألت الابنة الكبرى ولا يزال الخوف يملأ جوانحها: ما الذي حدث موجهة الحديث إلى خالها ووالدتها، هذه روح صاحب البيت وقمنا بكرامتها، هزت بنت علي رأسها علامة الموافقة.
** **
- محمد علوان