د. خالد الشرقاوي السموني
فهل سيعرف العالم عودة الدولة «المستبدة» أو الدولة «السلطوية» مع فرض قوانين الطوارئ والتضييق من فضاء الحقوق والحريات بسبب الأزمة الصحية؟ وهل سيعرف العالم صعود الاستبداد وإساءة استخدام التكنولوجيا لتعقب أفعال كل مواطن؛ وبالتالي نهاية الحريات، بما في ذلك حرية التعبير والصحافة، التي تعتبر حجر الزاوية في الديمقراطيات؟ كما كتب الصحفي ستيفان بيسار في مقال له.
يقول الخبير في الأمن المعلوماتي الأمريكي إدوارد سنودن: «إنه بينما ينتشر الاستبداد مع فرض قوانين الطوارئ، وبينما نضحي بحقوقنا لإنقاذ أنفسنا من الفيروس، فإننا نضحي أيضًا بقدرتنا على إيقاف الانزلاق إلى عالم أقل ليبرالية وأقل حرية. الدول ستعمل على تطوير بنية القمع في عصر ما بعد كورونا».
حقيقة، فإن الإجراءات التي اتخذتها الحكومات كفرض حالات الطوارئ لمدة شهور، وإصدار قوانين استثنائية، وفرض حالة الحجر الصحي، وإغلاق المؤسسات التعليمية والتجارية وغيرها، قد زادت من المخاوف من استغلال الحكومات هذه الظروف الاستثنائية للإجهاز على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ وذلك بحجة الحد من انتشار فيروس كورونا، وهو سبب موضوعي ومنطقي، قد يتقبله الإنسان حماية لصحته.
وفي هذا الصدد نذكر أمثلة كثيرة، يمكن من خلالها الإجابة عن تساؤلاتنا.
فقد سمح وباء فيروس كورونا للحزب الشيوعي الصيني بالتحكم أكثر في السكان، وأظهرت الصين مرة أخرى فوائد قيادة هذا الحزب وإنقاذ البلاد من كارثة عظمى عبر اللجوء إلى فرض الحجر الصحي على مدينة ووهان بكاملها، ومنع حق التنقل والتجول. وموازاة مع ذلك تم طرد الصحفيين الأجانب، بما في ذلك الصحفيون من نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، وصحيفة وول ستريت، وفرض رقابة من قِبل الشرطة والجنود على مقار الصحف.
وأدت الحرب على الوباء إلى منع التجمعات العامة، ووضع حد للتظاهرات والاحتجاجات الاجتماعية في عدد من الدول، كالجزائر ولبنان والعراق؛ إذ أقنعت سلطات هذه الدول المتظاهرين المعتصمين في الشوارع بإنهاء المظاهرات اليومية التي قد تؤدي إلى تفاقم الأزمة الصحية. كما أدت التدابير الاستثنائية أيضًا إلى تقيُّد حرية التنقل، وأصبحت شوارع هذه المدن خالية من الحركة، تسير عبرها سيارات الأمن العام والمركبات العسكرية، كأن الدول في حالة حرب.
وأدت التدابير الاستثنائية إلى تأجيل إجراء الانتخابات في كثير من الدول؛ وهو ما قد يكون له أثر سلبي على الديمقراطية. فعلى سبيل المثال: أجلت الانتخابات الوطنية ببريطانيا، التي كانت مقررة في 7 مايو المقبل، لمدة عام. وفي تشيلي أجل الاستفتاء على الدستور الجديد الذي كان مقررًا في 26 إبريل لمدة 6 أشهر. وفي إيران أجلت الدورة الثانية لانتخاب مجلس الشورى، التي كانت مقررة في 17 إبريل، إلى 11 سبتمبر المقبل. وفي فرنسا أجلت الدورة الثانية للانتخابات البلدية، التي كانت مقررة في 22 إبريل، إلى 21 يونيو المقبل. علمًا بأن هناك دولاً أخرى بصدد مناقشة قرار تأجيل الانتخابات البرلمانية كما هو الشأن بالنسبة للكويت.
وأدت أيضًا التدابير الاستثنائية إلى تقييد حرية الصحافة؛ إذ صارت ممارستها في زمن كورونا تحت المراقبة، ولا يُسمح للصحفي بأن يؤدي عمله إلا بإذن من السلطات، مع تعليق إصدار الصحف الورقية التي كانت تمثل منابر مهمة للتعبير عن الرأي والرقابة على سياسات الحكومات. علمًا بأن الحق في الحصول على المعلومة أمر مهم لإطلاع الرأي العام على وضعية الوباء، والتدابير المتخذة لمواجهته.
وأدى تفشي وباء فيروس كورونا إلى جمود اقتصادي في معظم الدول بسبب إغلاق عدد من المعامل والمؤسسات الصناعية والتجارية؛ وهو ما تسبب في فقدان الوظائف لكثير من الأُجراء والعمال، وهو ما يثير قضية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ومنها الحق في الشغل. كما أنه خلال حالة الطوارئ اشتدت الرقابة «الرقمية» على مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى على الهواتف.
فمثلاً الحكومة الإسرائيلية سمحت لجهاز الأمن الداخلي «شين بيت»، الذي يركز عادة على «أنشطة مكافحة الإرهاب»، بجمع البيانات عن المواطنين في إطار حملة لمكافحة فيروس كورونا المستجد.
وفي الولايات المتحدة قام فريق في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بتطوير تطبيق تتبع التقارب لتتبع أولئك الذين كان لديهم اتصال مع مرضى كوفيد 19؛ إذ أعلنت Google وApple إدخال واجهات برمجة تطبيقات Android وiOS لتسهيل تتبُّع الاتصال الطوعي عبر عمليات إرسال Bluetooth منخفضة الطاقة. وفي كوريا، في إطار تتبع الأفراد المحتملين المصابين، تجمع الحكومة، ليس فقط بيانات التوطين من الهواتف المحمولة ونظام تحديد المواقع العالمي، ولكن أيضًا بيانات النقل العام، وبيانات بطاقة الائتمان، وسجلات الهجرة، وما إلى ذلك.
ويمكن أن تشكل المراقبة العامة للدولة على السكان مخاطر كبيرة على الديمقراطية. لقد أشارت بعض الشركات الكبيرة إلى أنها أرسلت بيانات مجمعة ومجهولة الهوية إلى الحكومات، ولاسيما الفرنسية، دون أن يعرف أي شخص الإطار القانوني لهذه العملية، أو البيانات المرسلة، أو استخدامها، أو مدة التخزين، أو أي ضمان ضد إعادة تحديد الهوية؛ وهو ما حدا بعضو البرلمان الأوروبي دافيد كورمان إلى القول: «إن حالة الطوارئ تدفعنا إلى مجتمع المراقبة العامة». وأضاف: «إن وضع خصوصيتنا سرًّا من خلال تقارب غير مسبوق بين الشركات التي تمتلك تقنيات المراقبة والدول سيخلق سابقة». وفي ظل الحرب على الوباء اغتنم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الفرصة لتوسيع جهاز القمع الهائل بالفعل في الكرملين في شكل الآلاف من كاميرات التعرف على الوجه التي ستمكّن الشرطة من تحديد واستهداف الأشخاص المشاركين في مظاهرات الشوارع بعد فترة طويلة من تراجع الفيروس التاجي حتمًا.
وتتجلى الخطورة أكثر في أن بعض الدول وظفت التدابير الاستثنائية لتحقيق أهداف سياسية. نذكر على سبيل المثال: دولة مصر التي أعلنت تمديد حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد لمدة 3 أشهر، وذلك بدءًا من 28 إبريل 2020. والغاية هنا من حالة الطوارئ ليس بالضرورة مواجهة تفشي فيروس كورونا، وإنما مواجهة أخطار الإرهاب وتمويله، وحفظ الأمن بجميع أنحاء البلاد، وحماية الممتلكات العامة والخاصة، وحفظ أرواح المواطنين، وبصفة غير معلنة تبقى الغاية من القانون هو قمع الحركات الاحتجاجية والآراء المعارضة.
وفي المجر استغل رئيس الوزراء فيكتور أوربان أزمة الوباء كذريعة لتفكيك الديمقراطية في البلاد. ففي 30 مارس أقر البرلمان قانون الطوارئ الذي يمنح الحكومة سلطات واسعة، وتقرر بمقتضاه تعليق جميع الانتخابات. علاوة على ذلك يسمح القانون للحكومة بسلطة تقديرية واسعة النطاق وغير محددة. ومكّن القانون أوربان من الحكم بمرسوم يمنحه سلطات استثنائية. إضافة إلى ذلك، يحظر المرسوم نشر الأخبار التي تعرقل إجراءات الدولة في مكافحة الوباء تحت عقوبة سجنية تصل إلى خمس سنوات، متجاوزًا الهيئة التشريعية. ونشير هنا إلى أن الأمينة العامة لمجلس أوروبا ماريا بيجينوفيتش بوريتش حذرت دولة المجر؛ باعتبارها عضوًا في المجلس، من كون هذا المرسوم يضر بالمبادئ الديمقراطية.
وفي الفلبين استحوذ الرئيس رودريغو دوتيرتي على السلطة التشريعية كاملة، لا حدود زمنية لها، وأصدر قانونًا ضد الأخبار الكاذبة، وأعطى أوامر للشرطة بفرض حالة الطوارئ بقبضة من حديد مع إطلاق النار على كل من لا يلتزم بذلك. وقد تم اعتقال 120 ألف شخص لعدم امتثالهم لحظر التجول. وفي كينيا أسفرت الأساليب القمعية للشرطة عن مقتل 20 شخصًا خالفوا حظر التجول، وهو عدد يفوق عدد الوفيات بالفيروس في هذا البلد. وفي جنوب إفريقيا تم اعتقال نحو 17000 شخص؛ لم يمتثلوا هم كذلك لحظر التجول. ولذلك نلاحظ كيف أن الحرب على فيروس كورونا المستجد أعطت صلاحيات استثنائية للحكومات على حساب القوانين والدستور، وهو ما يلفت الانتباه إلى أن الديمقراطية وحقوق الإنسان تخضعان لامتحان صعب. ففي هذا الصدد اعتبر أستاذ العلوم السياسية فلوريان بيبر أن الوباء وفّر للحكومات فرصة للتعسف، وإساءة استخدام القرار، وتقليص الحريات المدنية. إن الإجراءات الحالية قد تنجح في التخفيف من انتشار الفيروس، وتفشي الجائحة، لكن العالم سيواجه خطرًا من نوع آخر؛ إذ ستكون العديد من البلدان أقل ديمقراطية بكثير مما كانت عليه، حتى بعدما يتراجع خطر الفيروس.
هذا الوضع المثير للمخاوف شغل اهتمام المنظمات الدولية والإقليمية، التي حذر بعضها الدول من استغلال التدابير الاستثنائية للإجهاز على الديمقراطية وحقوق الإنسان. فمثلاً: المفوضية السامية لحقوق الإنسان لدى هيئة الأمم المتحدة وضعت مبادئ توجيهية خاصة بكورونا المستجد، تم التشديد فيها على أن الاحترام الكامل لحقوق الإنسان، بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والحقوق المدنية والسياسية، أساسي لنجاح خطط التصدي التي تعتمدها الصحة العامة. كما وجّهت الأمينة العامة لمجلس أوروبا ماريا بيجينوفيتش بوريتش وثيقة لجميع الدول الأوروبية (47 دولة عضوًا في المجلس) بشأن احترام حقوق الإنسان والديمقراطية ودولة الحق خلال أزمة كورونا. وقالت الأمينة العامة في الوثيقة: «الفيروس يدمر الأرواح والعديد من الأشياء العزيزة علينا. لا تدعوه يدمر قيمنا الأساسية، ويقوض مجتمعاتنا الحرة».
وتأسيسًا على ما سبق ذكره نرى أن التخوف يبقى قائمًا من أن تتحول الإجراءات الاستثنائية المؤقتة لمواجهة الوباء إلى إجراءات دائمة. فقد أثبتت بعض التجارب أن بعض الدول استغلت حالات الطوارئ والحروب ومكافحة الإرهاب الكوارث الطبيعية لتعزيز السلطات الحاكمة من خلال وضع قوانين استثنائية، واستمرت في العمل بها. فقد يكون من الصعب التراجع عن هذه السلطة التي امتُلكت خلال الظروف الاستثنائية. فلا شك أن الخوف من تفشي الوباء بشكل سريع، وارتفاع عدد المصابين بالفيروس ونسبة الوفيات، قد أربك دول العالم، حتى المتقدمة منها عالميًّا على المستوى الطبي والتقني، وجعل الشعوب نفسها تقبل بالأمر الواقع الذي فرضته حكوماتها، كالحجر الصحي وحظر التجوال وغيرها من التدابير كما ذكرناها، على الرغم من احتوائها على قوانين تضرب في عمق الديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن، في المقابل يجب مراعاة الضروريات الحيوية الثلاث لجميع المجتمعات الديمقراطية: حماية الصحة العامة، وضمان الحقوق والحريات، وإنعاش النشاط الاقتصادي، بحيث ينبغي أن تكون الإجراءات الاستثنائية - كما ذكرناه أعلاه - متناسبة أولاً مع حجم الخطر الوبائي. ثانيًا: محققة للتوازن بين هذه الضروريات الثلاث. ثالثًا: محدودة في الزمن، ترفع مع زوال الوباء، وإلا سنكون أمام «استبدادية الدولة».