ميسون أبو بكر
كنت أقاوم دموعي وأنا أستمع لضيفي في الحلقة -التي أوشكت على نهايتها- معالي د. غازي القصيبي وهو يقرأ المقطع الأخير من روايته «شقة الحرية»، فوداع الأشياء التي نحبها صعب جداً وغالباً ما نغص بالحنين إليها، والأدب كنقر الأنامل على أوتار الذاكرة، والشاعر القصيبي أصر أن يكتب روايته بمشاعر الشعر التي لا تشبهها لغة، وبدأ أبوابها بأبيات شاعرنا الذي لا يموت فينا.. المتنبي. حاولت كثيراً أن أتمالك نفسي كي لا أشرق بكلمات ليست كالكلمات، فالقصيبي يزرع ألغامه في حقول كلماته ويدع القارئ يقفز بينها كغزال رشيق بين متعة المغامرة ورهبة سبر أغوار الحكاية.
«شقة الحرية» عنوان لكتاب يقرع في مخيلتك كأجراس أراد بها المؤلف أن تثير ضجيجاً لا يهدأ في داخلك، فكيف تكون الشقة وهي المساحة الضيِّقة فسحة للحرية التي لا يعلو سقفها عن كونه حلم جميل أو مشاغبات بسيطة يحملها تلميذ جامعي بين أوراق كراسته التي لا ينبش فيها أحد ولا تستهوي أحداً حتى تتحول بعد ذلك لرواية تحتل مكاناً مهماً في مكتبات القراء الشخصية والمكتبات في عالمنا العربي الموجوع بذاكرته!
أصر غازي القصيبي أو الناشر أو كلاهما أن يوضح للقراء أن جميع أبطال هذه الرواية وجميع أحداثها من نسج الخيال ووقائعها خيال، وأي محاولة للبحث عن الواقع في الخيال ستكون مضيعة لوقت القارئ، أراد أن يؤكد القصيبي أنه ليس كل عمل روائي هو سيرة ذاتية لصاحبة كما أراد أن يخفف على قرائه ذوي النزعة الاستخباراتية عناء التقصي الذي قد يمنح كل امرأة اسماً وكل حادثة مغزى وكل رجل شخصية مرت بالكاتب. كان يمكن أن يختار الدكتور غازي عنواناً آخر: «غربة طالب جامعي»، «حكايات القاهرة»، «دفعة القاهرة» لكنه اختار الشقة كرمز لعالم كبير لطالب قادم من عالم مختلف له جغرافيته وثقافته وخصوصيته أيضاً، والحرية حلم شاب للتو بدأ بتهجي نمط مختلف خارج نطاق عالمه المقيد بالمسموح والممنوع.
عناوين الكتب مفاتيح لحيوات تعيش على سطورها وترسم بحبر سري تارةً وبأحبار قاتمة حيناً آخر، وكما كتبت جريدة الشرق الأوسط: إن غازي القصيبي ينقل القارئ إلى ذلك المناخ الثقافي والفني الغني، حيث يعيش معه بطل الرواية الذي يحاول كتابة القصة والانتماء لأهل الأدب؛ مشاهداته التي تمتد من صالون العقاد إلى جلسة نجيب محفوظ مروراً بأنيس منصور الذي كان يعلِّم الناس تحضير الأرواح».
في الدقائق الأخيرة من برنامجي «ستون دقيقة» على القناة الأولى قرأ القصيبي:
«أواه يا قاهرتي، يا أم الدنيا هل أراك مرة أخرى؟ وماذا لو رأيتك وتلاقينا لقاء الغرباء؟
أعرف الجواب، أصبحت من الغرباء بالفعل، بعد غياب أربعة شهور فقط، كتبت على جبهتي في المطار بحبر غير مرئي «سائح»... أتيت فقط للوداع، لإلقاء نظرة أخيرة على حياتي هنا.. على القاهرة، وعلى شقة الحرية».
هذه الجملة أسدلت الستار على حلقة من ستين دقيقة ظلت إلى الآن مشهداً مفتوحاً على مسرح الحياة وعلى منصتها؛ تراودني كلما تعانقت نظراتي مع الكتاب الأنيق على أرفف مكتبتي وكلما ذكرت نفسي بأن الخطأ مع الكبار مشروع موت محتوم، فقد كنت كمن يمشي بين الألغام ومن يتخطى الأسلاك الشائكة وأنا أحاور قامة من دم ولحم بعد أن كانت من ورق وشعر ونثر قبل لقائي بها.
رحل غازي وترك حكايات حب، ورجل جاء وذهب، وكتب في الإدارة وشقة الحرية وعشرات من الكتب تذكر به.