د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الفلسفة بحر من بحور العلوم الكثيرة، وبحرها لا أحسن الإبحار فيه، لكنني أبحر أحياناً، وقد وجهني والدنا معالي الشيخ عبدالله النعيم، وهو مع سجله الحافل في التخطيط والبناء والتشييد، وفعل الخير المديد، قارئ وأديب مميز يقطف من كل بستان زهرة، وجهني بأن أكتب شيئاً عن ابن رشد، وابن رشد الحفيد كما أسلفت في مقالات سابقة له باع طويل في علوم شتى من فلسفة، وعلم الكلام، والمنطق والطب، والتنجيم، وفوق ذلك العلوم الشرعية واللغوية.. وسأكتب عن تصنيف العلوم قبل الحديث عن ابن رشد.
اختلف العلماء في تقسيم العلوم ولابن حزم الظاهري العالم الفقيه الأندلسي المشهور، رسالة في تصنيف العلوم، سماها «مراتب العلوم»، والحقيقة أن الجدل كان سائداً منذ زمن أفلاطون وتلميذه أرسطو طالس، وغيرهم حتى زماننا هذا، في تصنيف العلوم، فهناك في العصر العباسي من يقول: الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنجوم للأزمان، والنحو للسان، وهناك من يرى العلم نوعان: علم يرفع، وعلم ينفع، فالرافع هو الفقه والدين، والنافع هو الطب، أما أبو إسحاق فهو يرى أن العلوم، إما أن تكون دنيوية أو أخروية، وعلوم لا للدنيا ولا للدين، فالعلم الذي للدنيا، هو علم الطب والنجوم وما أشبه، والعلم الذي للدينا والآخرة، علم القرآن والسنن والفقه فيهما، والعلم الذي ليس للدنيا، ولا للآخرة: علم الشعر والشغل به.
هذا التصنيف البسيط ينطلق من البيئة، وبما هو متاح من العلوم في ذلك الزمان، ولاشك أن العلوم أكثر بكثير من ذلك حتى في ذلك الوقت مثل علم النفس، والاجتماع، والكيمياء وعلم الحيوان، وعلم النباتات، وغيرها التي كانت قائمة من آنذاك، وقد يصل الأمر إلى حد التعصب في نقطة معينة من هذه العلوم، ويمكن أن يوصف «بغرور المعرفة القليلة».
في تصنيف أرسطو طالس للعلوم نجده قد قسمها إلى ثلاثة أقسام يتفرع من كل واحد منها عدة فروع، فهو يقول: إن العلوم علوم عملية، وعلوم نظرية، وعلوم منتجه، ومثله كان ابن سينا.. أما ابن عبدالبر النمري، في القرن الخامس الهجري، فقد قال: العلوم عند جميع أهل الديانات ثلاث، علم أعلى، وعلم أوسط، وعلم أسفل، والعلم الأعلى، فهو ما أنزل الله في كتبه على أنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم، والعلم الأوسط، هو علوم الدنيا، التي يكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيرة.. ويستدل عليه بحثه مثل علم الطب والهندسة، والعلم الأسفل، هو إحكام الصناعات.
وجابر بن حيان الذي توفي عام مائتين للهجرة، من أقدم من كتب عن تصنيف العلوم في العالم الإسلامي، وقد حابا فيه صنعته، وهي الكيمياء، التي أبدع فيها أيما إبداع، وقلل من شأن غيرها، رغم أهميتها ورفع منزلتها، وحاجة الناس إليها، فهو يذكر أن العلوم تقع في نوعين: علم الدين وعلم الدنيا، كما قسم علوم الدين إلى علوم شرعية، وعلوم عقلية، والشرعية لديه علوم شرعية ظاهرة، وأخرى باطنه، والعلوم العقلية تنقسم غلى قسمين علوم المعاني، وعلوم الحروف، وعلوم المعاني لديه نوعان، فلسفية، وإلاهية، علوم الحروف لديه، طبيعي وروحاني، والطبيعة لديه أربعة، الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، والروحاني ينقسم إلى نوراني، وظلماني، وعندما جاء إلى تقسيم العلوم الدنيوية، فلم يسترسل في التفريعات، وقسمها إلى قسمين، علم شريف، وعلم وضيع، وجعل الكيمياء علم شريف، بينما يرى أن العلم الوضيع هو علم تلك الصنائع التي تعين المرء على الكسب المادي.
ظهر أن جابر بن حيان، قد أخطأ في تسميه الصنائع بالعلم الوضيع، فهي علم شريف، كما هو علم الكيمياء، لكنه مال إلى صنعته ومنهجه الذي أحطته لنفسه.. ولا يراودني شك أن جابر بن حيان قد قصد بوصفه الكيمياء بالعلم الشريف، تعبيراً عن لفظ مصطلح، البحوث العلمية، لأن علم الكيمياء، لا يجلب مالاً بصور مباشرة في ذلك الزمان، لكنه يؤسس لاستفادة من مركبات جديدة يمكن استخدامها في الصناعات الدنيوية كما يسميها، لهذا فإن كان البحث العلمي لا يجلب المال في ذلك الزمان، فمن الإنصاف لدى بن حيان، أن ينعت بالعلم الشريف تقديراً لصاحبه، لكن هذا لا يسمح لابن حيان، أن يصف العلوم الدنيوية الأخرى بالوضيعة، ولولا الصناعة والصناع، والزراعة والزراع، لما حصل هو على قوت يومه، وسكن في مكان لإيوائه، واستخدم أدوات في كيميائه. تصنيف العلوم بحر واسع ساهم في كشف أسراره، ابن سيناء، والرازي، والكندي، في المشرق، وابن حزم، وابن رشد، وابن الطفيل، وابن زهر وغيرهم في الغرب الإسلامي، ولم يعد لذلك التصنيف واقعاً في عصرنا الحديث، فقد أصبحت العلوم وفروعها أكثر من أن تحصى، وجميعها شريفة، تضيف إلى الإنسانية خيراً، ما عدا تلك الضارة التي أصبحت تتطور، بتطور تلك النافعة.