د. عبدالحق عزوزي
خلق الله - عز وجل - البشر مختلفين في فكرهم وطبائعهم وتصوراتهم الحضارية؛ لذا يخطئ مَن يظن أن العالم يمكن أن يكون على نسق واحد، وأن يكون مرجعه خاضعًا لقواعد موحدة فكريًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، ولكن هناك قواسم مشتركة، تمكّن الجميع من العيش في أسرة إنسانية واحدة، وبيت مجتمعي مشترك، ومن ذلك أن لا فرق بين أسود ولا أبيض، ولا بين فقير وغني إلا بالتقوى.. وهاته القاعدة جاءت بها كل الديانات التوحيدية دون استثناء، وعلبها قوام البشرية؛ فإن لم تحترم ظهرت فيروسات خطيرة في النفوس والقلوب. والأدهى من ذلك أنها يمكن أن تبقى مخفية إلى حين، قبل أن تظهر وتحدث شروخًا في المجتمع، وانفصامًا بينًا في جوانب شخصيتها. ونحن نتذكر ماذا وقع في بلدان عديدة، مثل ما وقع في جنوب إفريقيا من تمييز عنصري، أتى لعقود على الأخضر واليابس، وأثر على المسيرة الحضارية للبلد قبل أن يفهم الجميع أن ذلك مؤذن بذهاب القشرة الحامية للبلدة والمؤسسات، ويقوض قواعد العيش المشترك والتطوير الاقتصادي والمجتمعي والثقافي، وأنه يؤثر على أجيال متعاقبة، ينظرون بنظرة لون بشرة الأنا والآخر على حساب الوحدة الوطنية..
ثم إن الحضارة هي ذات طابع مادي، أو هي تتصل بالماديات التي تتواصل وتتعاقب بعفوية وتلقائية من بلد لآخر مع توالي العصور، مما تكاد به أن تكون واحدة، في حين تعتبر الثقافة أحد مقومات الهوية بالنسبة لأي مجتمع، وهي تتشكل من المكونات الروحية والفكرية والأدبية والفنية التي تختلف من كيان لآخر. علمًا بأن هذا الكيان قد يكبر أو يصغر تبعًا لمدى اتساع الذات وما يكون فيها من تعدد وتنوع.
فكل حضارة معينة تعكس المعتقدات والمبادئ والقيم التي تنبثق من روح الشعوب، وتعبر عن روح الأمة التي تنشئها، فلا يظنن ظان أنه يمكن لحضارة معينة أن تولد من فراغ. وتتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون؛ فهي بذلك نظام اجتماعي معين معقد ومترابط، تحكم الماضي بالحاضر، وتضم الفنون والآداب والمعتقدات والمعرفة والعادات والتقاليد.. وأقد أجاد العديد من المختصين في إعطاء تعاريف متميزة للحضارة، فهي: «الزائد على الضرورة من العمران» (ابن خلدون)، و»لكل حضارة دستور أخلاقي، يتجلى في العقيدة وقوة النفس» (أوزولد شبنقلر)، و»هي وحدة تاريخية.. والاستجابة للتحديات عند الإنسان، فردًا أو مجتمعًا، هي سبب نشوء الحضارة» (آرنولد توينبي)..
أما الثقافة فهي تشمل الأفكار واللغة والعادات والتقنيات والأعمال الفنية والأدوات، ويكون استعمالها لصيقًا بالبشر الذي يتوافر على القدرة العقلية والتفكير المجرد؛ لذلك عرفها بعضهم أنها «خاص بالإنسان المفكر، إضافة إلى أشياء مادية يستعملها بوصفها جزءًا لا يتجزأ من هذا السلوك». ولا يمكن حصر الثقافة في تعريف معين؛ فقد أحصى كروبر Kroeber وكلوكهوهن Kluckhohn عالما الأنثروبولوجيا المشهوران أكثر من 160 تعريفًا للثقافة، منها أنها «الأفكار الذهنية»، و»البناء المنطقي»، و»الخيال الإحصائي»، و»السلوك المتعلم»، و»آلية الدفاع النفسي»، و»التجريد انطلاقًا من سلوك».
لا يجب أن يفهم كلامي أن الحوار خاصة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية وجل الصراعات يكون بين الحضارات والثقافات، ولكن يكون بين ممثلي الحضارات والثقافات؛ لأن الحضارات والثقافات كيانات معنوية، لا تتحاور فيما بينها، فأصحابها انطلاقًا من الموروث الحضاري والثقافي عندهم هم الذين يتحاورون فيما بينهم. إذا فهم رجل الدولة أو أي فاعل تاريخي أو سياسي ذلك، سيفهم أن محاوره يحمل معه أولاً مسلّماته الحضارية والثقافية، وثانيًا مسلّمات دولية، هي عبارة عن قواسم مشتركة. إذا فُهم ذلك جليًّا، ووضع كل محاور نفسه في نفس الآخر، تم الحوار الجاد والهادف والناجح، وتم حل المئات بل الآلاف من المشاكل الدولية والوطنية، وتم احترام خصوصيات كل مجموعة، ونقص الظلم والفساد، وتمت إعادة صياغة العديد من البارديغمات في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية. سألت يومًا رجلاً حكيمًا، تقلد في حياته العشرات من المناصب السامية، وجاد وأجاد في بناء الدولة والمؤسسات، وكوّن جيلاً بأكمله من رجالات الدولة الكبار، عن سر نجاحه، فأجابني بأنه دائمًا ما يضع نفسه في نفس محاوره لكي يرى كيف يفكر ويرى الأشياء، ويحكم عليها. آنذاك يمكن أن يحاوره ويخاطبه؛ لأن أرضية الحوار غير المرئية تكون قد بُنيت.