زكية إبراهيم الحجي
كلما كان الإنسان يعيش محاطاً بالزحام ازداد احتياجه للقليل من الهدوء وقضاء بعض الوقت في عزلة بعيداً عن ضجيج الحياة وضوضاء المؤثِّرات الخارجية التي تعصف بعالمنا حتى كادت أن تفصلنا عن ذواتنا وتصرف أنظارنا عن خوض تجارب مفعمة بالحياة وروح الإبداع وإثراء الخيال لتجسيد أعمال إبداعية كنا نتمنى تجسيدها على أرض الواقع يوماً ما.
أن تكون في عزلة مؤقتة فإنك تمنح نفسك فرصة التحرّر والانعتاق من قبضة الانصياع.. تمنح نفسك فرصة زمنية تمكنك من العودة مجدداً لتفهم احتياجاتك واكتشاف ذاتك، فكثيرٌ من الإبداعات الخالدة نسجتها أنامل العزلة فكان طابعها الديمومة والأثر لتبقى عبر التاريخ أيقونات تُذكِّرُنا بأصحابها.
اليوم نحن نحيا وسط جائحة تعصف بالعالم وشعوبه.. جائحة فرضت علينا الامتثال لحجر منزلي وعزلة إجبارية فكيف نتعامل مع حالة استثنائية مطبوعة بعزلة تُضاعف الإحساس بالخوف والقلق من وباء أدخل البشر في حالة أشبه ما تكون بانكفاء على الذات.. كيف نجعل من شعار (خليك في البيت.. وكلنا مسؤول) نقطة انطلاق من أعماق هذه العزلة نحطّم أسوارها المحيطة بنا ونربط ذواتنا بكل ما هو جوهري.. نحول العزلة إلى أرض خصبة للإنتاج والإبداع ونصنع حياة من قلب المعاناة وهذا ما أدركه الكثير ممن آثروا العزلة اختياراً طوعياً أو أولئك الذين عاشوا عزلة إجبارية مباغتة وغير متوقعة كالعزلة التي فُرضت على البشرية اليوم نتيجة تفشي وباء كورونا..فرب ضارة نافعة. يروي لنا التاريخ كيف كانت العزلة والحجر الصحي الذي فُرض على البشرية إجبارياً ولفترات طويلة نتيجة تفشي أوبئة أو بسبب حروب قاتلة شهدها العالم سبباً في ظهور العديد من الإبداعات التي أفادت البشرية على مر العصور.. ونماذج كُثر يُعدون أيقونات فن الإبداع تركوا بصمة لهم ورحلوا.. وجميل أن نستذكرهم ونحن نعيش فترة عزلة وحجر صحي لعل أحداً تقوده عزلته لدهشة ميلاد لقاح لوباء كورونا فالتفاحة التي سقطت من الشجرة لم تثنِ إسحاق نيوتن الذي عاش عزلة ريفية إجبارية نتيجة تفشي الطاعون في بريطانيا عام 1665 من التوصل إلى قانون الجاذبية (ومأساة هملت) المسرحية التراجيدية الشهيرة التي كتبها شكسبير في عزلته تأثراً بوفاة ابنه جراء انتشار الطاعون في مدينته لندن خلال أبرز سنوات تألقه.. أما ابن الوردي الذي عاش في بلاد الشام عندما وصل وباء (الموت الأسود) إليها عام 1349 وظل يحصد الأرواح لسنوات فقد وصف حاله وهو في عزلته حيث قال:
ولستُ أخافُ طاعوناً كغيري
فما هو غيرُ إحدى الحسنيينِ
فإن متُّ استرحتُ من الأعادي
وإن عشتُ اشتفتْ أذني وعيني
الإبداع فن يولد من رحم العزلة.. وكم يأسرني قول المصور الأمريكي (أنسل آدمز) الذي اشتُهر بصوره الفوتوغرافية بالأبيض والأسود، حيث قال: عاش ملايين الرجال يقاتلون لبناء القلاع والحدود ولتشكيل مصائرهم ومجتمعاتهم لكن تبقى الأصالة والإبداع الوحيدة القادرة على تشكيل جذور الإنسان بعمق.