أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: روى مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض.. والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك.. كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها). وهذا الحديث الشريف أول الأحاديث الواردة في كتاب الطهارة من صحيح مسلم -رحمه الله-، وأقف عنده هذه الوقفات:
الوقفة الأولى: عند معنى الطهارة؛ فقد تأملت كتب أهل اللغة فوجدتهم يعرفون الطهر بنقيض النجاسة، ثم لما تأملت استعمال الناس، واستعمال نصوص الشرع، وجدت أن الطهارة بمعنى زوال النجاسة، وليست بمعنى نقيض النجاسة؛ ولما كان الطهر يزيل النجاسة كان المحل الطاهر بضد المحل النجس. والطهارة في عرف الشرع تطلق على معان ثلاثة: أولها: إزالة النجاسة العينية من البدن واللباس والمكان. وثانيها: إزالة الأحداث التي لا تصح بعض العبادات إلا بها، تسمى في عرف الشرع غسلاً ووضوءاً. وثالثها: أن إزالة الأرجاس المعنوية تكون من المعاصي والأفعال المحرمة. ومن هذا الباب قول الله سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [سورة المائدة/ 41].
والوقفة الثانية: عن معنى الوضوء؛ فإن أهل اللغة يأتون إلى فصل الواو من باب الهمزة؛ فيقولون: وضؤ بمعنى حسن ونظافة، ثم يأتون إلى فصل الضاد من باب الهمزة؛ فيقولون: الضوء هو النور؛ فيجعلون هذه المادة مادتين. وليس هذا من العمل الجيد؛ بل هما مادة واحدة، هي: الوضوء فقط. ومن الضوء أخذ العرب الوضوء لفظاً ومعنى. وبيان ذلك أن العرب لا تعرف الوضوء بمعنى الطهارة مطلقاً؛ وإنما تعرف الوضيء بمعنى الحسن المشرق اللماع، ثم جاء الشرع فسمى غسل الأعضاء التي لا تصح الصلاة إلا بها وضوءاً. ومأخذ الشرع المطهر في هذه التسمية مأخذ معنوي؛ وذلك أن أهل الوضوء يبعثون غراً محجلين، لهم وضاءةً. كما أن في الوضوء تطهيرًا من الأقذار الحسية، وتطهيرًا من الأمور المعنوية، كالإثم، والمعصية؛ فلما كانت نتيجة الوضوء بالمصطلح الشرعي هي التطهير سمى العرب النظافة توضؤا.
والوقفة الثالثة: عند قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (شطر الإيمان). ولقد حار شراح الحديث في تفسير هذه الجملة؛ فقالوا: إن الإيمان يجب ما قبله من الإثم، والطهور ملازم لأهل الإيمان؛ فكان الطهور شطر الإيمان لهذا التلازم. وهذا المعنى ليس بسديد؛ لأن أهل الإيمان تلازمهم أعمال أخرى كنية تمييز العمل المقصود؛ ولم يرد نص بأن نية تمييز العمل تسمى شطر الإيمان. وقيل معنى الطهور شطر الإيمان: أن الله يضاعف الأجر فيه مضاعفةً، تنتهي إلى نصف مضاعفة أجر الإيمان. وهذا المعنى لا يعجبني أيضاً؛ لأنه دعوى بلا برهان، وقول على الشرع بغير علم. وقيل المعنى: أن الطهارة لا تصح إلا مع الإيمان؛ فلما توقفت على الإيمان أصبحت الطهارة شطراً، والإيمان شطراً. وهذا المعنى ليس سديداً عندي؛ لأن جميع أعمال الديانة لا تحاش منها شيئاً: لا تصح إلا مع الإيمان، ولم يرد نص بأن كل عمل من أعمال الديانة يسمى شطر الإيمان. وقيل المراد بالإيمان الصلاة لقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [سورة البقرة/ 143]؛ ولما كانت الصلاة لا تصح إلا بالطهارة، وكانت الصلاة تسمى إيماناً، صح أن الطهارة شطر، وأن الصلاة شطر. وهذا المعنى أيضاً لا يعجبني؛ لأن تفسير الإيمان بالصلاة تفسير بالمجاز، ولا يجوز الحمل على المجاز إلا ببرهان. ثم إن هناك شروطاً للصلاة غير الطهارة، لا تصح الصلاة إلا بها، ولم تسم هذه الشروط شطر الإيمان. والذي صح عندي -بعون الله- بعد طول التأمل: أن الطهارة وسيلة للعبادة، ومن الممكن أن يباشر المكلف العبادة بدون طهارة رياءً وسمعة، وتقيةً؛ ولن يؤدي المكلف عبادته بطهارة متقنة إلا وهو صادق الإيمان، مخلص النية لله سبحانه؛ ولهذا أصبحت الطهارة بشروطها أمانةً عند العبد لها حكم أعمال القلوب، والإيمان من أعمال القلوب؛ فكانت الطهارة شطراً من الإيمان: أي جزءاً منه. وقد أوضحت في حلقة سابقة أن الشطر في لغة العرب يطلق إطلاقاً مستوياً على النصف والجزء. وخير وسيلة لفهم مراد الشرع: أن يفسر بلغة العرب على الوجه الأوضح دون تأويل.
والوقفة الرابعة: عند قوله -صلى الله عليه وسلم-: (والحمد لله تملأ الميزان)؛ فهذا كناية عن عظم أجرها، ومضاعفته. وفي عرف الشرع أن الحسنات تثقل الموازين كما قال سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [سورة القارعة/ 6- 7]، وأن السيئات تخفف الميزان، {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [سورة القارعة/ 8- 9]. وإلى لقاء في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى. والله المستعان.