الحمدلله حمد الصابرين المحتسبين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
حكم المنية في البرية جاري
ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا
إذا هو خبر الأخبار
طبعت على كد+ر وأنت تريدها
صفوا من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار
آه ثم آه ثم آه آهات طويلة تتوالى في ليل طويل لا يريد أن ينقضي منذ أن سمعت خبر وفاتك يا والدي الحبيب، خبر مؤلم لم أسمعه بأذني بل سمعته بقلبي ومشاعري وكافة جوارحي، أحقًا مات أبي؟ مات العالم الجليل والرجل الفذ والقاضي العادل النزيه مات الحنون العطوف النبيل السخي مات الوالد أحسست بذلك بقلبي قبل أن يحاول من أخبرني تخفيف وقع الخبر علي وكنت قد عايشت مرضه الطويل لحظة بلحظة أرجو أن تكون مجرد إغمائه مثل ما مر عليه في السنوات الأخيرة ولكن كان الخبر المفجع فخطر لي قول المتنبي:
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ
فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً
شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي
وحين أخبرني أخي عن كثرة المعزين من محبيه ومريديه رغم الظروف الاحترازية الراهنة تذكرت أبيات تناسب حاله -رحمه الله-:
أَهكَذا البَدرُ تُخفي نورَهُ الحَفرُ
وَيُفقَدُ العِلِمَ لا عَينٌ وَلا أَثَرُ
خَبَت مَصابيحُ كُنّا نَستَضيءُ بها
وَطَوَّحَت لِلمَغيبِ الأَنجمُ الزُهُر
وَاستحكَمَت غُربَةُ الإسلام وَاِنكَسَفَت
شَمسُ العُلومِ التي يُهدى بها البَشرُ
انتقل والدي فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز الرشيد إلى رحمة الله في الثالث من شهر شوال عام 1441، غاب القاضي الألمعي النزيه قاضي المندق ثم رئيس محاكم الأحساء فنائب رئيس هيئة التمييز وعضو مجلس القضاء الأعلى لسنوات طويلة بعد أن قدم بفضل الله ومنته جهدًا في خدمة الإسلام بعلمه الغزير عن طريق الفتوى، وبعمله في القضاء مدة تجاوزت خمسين عامًا لم ينقض أو يرد إبان كان قاضيًا له حكم واحد ولذلك تفاصيل كثيرة جمعتها في كتابي عنه الموسوم (القول السديد في سيرة معالي الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز الرشيد).
يعزيني فيك يا حبيبي ويعزي محبيك أنك فارقتنا إلى من هو أحن من الأم بولدها إلى رب رحيم استرد وديعته قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ استقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ ألا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}.
وأحسبك بإذن الله منهم فلا أتذكر طوال حياتي أن المؤذن أذن وأنت في المنزل فقد كنت تسبق المؤذن إلى المسجد، وكان لسانك لا يفتر عن ذكر الله، وكنت كثير الصدقات ومنفقًا في سخاء على الفقراء والمساكين، فقد كنت تسير السيارات المليئة بالصدقات على الكثير منهم، وحين أنهكك المرض وأعياك وثقلت عليك وطأته لم نسمع منك أي تضجر، بل كنت تحمد الله وكان حديثك القرآن وضرورة المحافظة على الصلاة، وحين زاد واشتد المرض عليك وافتقدك منبرك ومسجدك ومصلاك، ومن كانوا يهرعون إليك لطلب الفتيات.
افتقدنا نحن أهل بيتك صوت رنين الهاتف الذي كان لا ينقطع من طالبي الفتيا وصوتك الجهوري الذي تحرص على رفعه حتى نسمع محتوى الفتوى، وكنا نشتاق إلى ندائك المتكرر للصلاة وكان يحزنني أنك انزويت في زاوية من المنزل لا تستطيع الحراك دون مساعدة وإن كان يخفف حزني قراءتك المستمرة للقرآن حتى وأنت في أشد حالات المرض، والآن افتقد كل ذلك لكنها سنة الحياة الماضية على الأولين والآخرين فأسأل الله ألا يحرمك أجر ذلك كله.
وأقول لسيدتي الوالدة والسيدة خالتي الفاضلتين ولإخواني واخواتي لا تحسبون القدر يجري وفق هوى أحد من البشر فالموت سنة الله الجارية في خلقة وإنما الحياة كون يليه زوال وعقد يصاحبه انحلال وإن لكل نفس أجلاً موقوتًا والعاقل من يعتقد أن هذا أمر لا مناص منه، فالخطب فادح وعظيم ومصابنا جلل فاصبروا واحتسبوا، فقد كان والدنا رجلاً حسن الذكر في حياته وبعد مماته، وكان خيرًا ونقيًا شهد له الجميع بالفضل والخير وهذا يعد جائزة معجلة لمن يفعل الخير، فقد روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ ويثنون عليه به فقَالَ: (تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ) ولعل هذا تفسير للآية الكريمة الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، فأسال الله لي ولكم أن نكون خير خلف لخير سلف.
اللهم أن هذا عبدك وابن عبدك، كان يشهد أنه لا إله إلا أنت سبحانك وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبدك ورسولك، اللهم إنه نزل بك وأنت خير منزول به وأصبح فقيرًا إلى رحمتك وأنت في غنى عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسنًا زده إحسانًا وان كان مسيئًا فتجاوز عنه اللهم اغفر له وأرحمه وأعف عنه وأكرم منزلته ووسع مدخله وأغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأنزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، اللهم آمين.
** **
- منيرة بنت عبدالله الرشيد