** قبل خمسين عاماً من اليوم.. وكنت قد بدأت عملي لتوي بجمارك جدة منقولاً من جمرك جيزان.. وقف أمامي شاب صغير وبيده بعض الأوراق والوثائق لتخليص بضائع لأحد التجار فطلبت منه الجلوس حتى أنجز معاملة من سبقه تراجع إلى الخلف وقال بأدب: أمركم.
** وبعد أن أنجزت أوراقه ذهب لحاله.. لكن تردده على مكتبي بحكم عمله في مكتب تخليص جمركي.. وعملي كأحد المكلفين بإنجاز وفسح البضائع.. استمر بعد ذلك.
** وبعد أكثر من شهر فاجأني بكتابة موضوع صغير، فقال لي وهو يمد يده به إليّ: سمعت أنكم تعملون بجريدة المدينة إضافة إلى عملكم في هذا المكان..؟
** قلت له نعم..
** قال لي: أنا طالب في المرحلة المتوسطة.. لكن ظروفي حتمت علي أن أعمل في مجال التخليص لأصرف على أسرتي الكبيرة..
** قلت له: وماذا أستطيع أن أفعل من أجلكم؟
** قال على استحياء: هذا العمل أتعبني وأخشى أن يعطلني عن دراستي.. وأنا لدي محاولات بسيطة في الكتابة.. فهل تستطيع مساعدتي للعمل مساء في أيّ عمل بالجريدة..؟ وناولني الموضوع الذي كتبه.
** قرأت ما كتب.. وكان عبارة عن محاولة متواضعة.. لطالب في مرحلة دراسية مبكرة.. لكنني حاولت أن أرفع معنويته فقلت له:
** وماذا تريد أن تعمل بالجريدة وأنت في هذه السن؟
** ارتبك.. وقال: أيّ عمل تراه مناسباً يا سيدي؟
** قلت له: دع الأمر لي.. وسأرى إن كانت بالجريدة فرصة مناسبة لك -إن شاء الله-.
** انفرجت أساريره.. وانطلق يكمل إجراءات فسح ما كلف بفسحه من بضائع.. ولم أره بعدها إلا بعد أكثر من شهر..
** سلم علي وجلس قريباً من مكتبي ينتظر فراغي من إنجاز إجراءات بعض المراجعين.. وعندما رأيته جالساً تذكرت موضوعه وتذكرت أنني نسيته تماماً.
** وبعد مغادرة المراجعين طلبت منه أوراق ومستندات فسح البضاعة المكلف بفسحها.. لكن فاجأني بأنه جاء هذه المرة لكي يسأل عما تم في طلبه السابق..
** اعتذر بأدب لكثرة إلحاحه.. فقلت له لا عليك..
** وطلبت منه أن يأتي إلى مقر الجريدة لأرى ما يمكن عمله له.. مساء..
** وعندما وصل بعد مغرب نفس الليلة.. قلت له:
** ترى العمل معنا شاق.. ويحتاج منك إلى تحرك دائم.. وكما فهمت منك بأنك لا تملك وسيلة مواصلات.
** قال بسرعة: أنا تحت أمركم.. وأنا لدي «ماطور» يساعدني في التنقل وتنفيذ ما تكلفني به.. قلت له حسناً.
** قال بفرح: أنا جاهز منذ هذه اللحظة لتنفيذ ما أكلف به.
** أعجبني فيه ثقته بنفسه.. فاستدعيت الزميل بالقسم الرياضي «حسن باخشوين».. وحين جاء إليّ قلت له: هذا الشاب -كما فهمت منه- لديه ولع بالرياضة.. ويرغب في العمل معكم بالقسم.. واقترح عليه أن يرافقكم في جولاتكم الميدانية.. وحضوركم المباريات.. وأن يكون معكم وأن يتعلم فنون الكتابة الرياضية.. وأقترح عليكم أن يركز على مقابلة اللاعبين.. وإجراء حوارات مع صغارهم ولعله يجد نفسه معكم.. وربنا يوفقه.
** وبعد شهرين.. جاءني الزميل باخشوين وأطلعني على بعض إنتاج.. عبدالعزيز النهاري.. ولم أصدق أن يكون ابن السادسة عشرة قد استوعب أبجديات المهنة بهذه السرعة انطلاقاً من المجال الذي يحبه (الرياضة).
***
** هذه البداية البسيطة مع شغفه الشديد بالمهنة وتعلقه بها فتحت أمامه فرصاً متوالية.. بعد ذلك.. في أقسام التنفيذ بالجريدة.. وتحديداً في متابعة الصفحات المنجزة واستكمال إجراءات العمل فيها.. إلى جانب التعاون مع القسم الرياضي.. ومن ثم العمل بالمحليات.. مندوباً خارجياً.. لكسب مصادر العمل الإخباري والميداني اليومي ثم في إجراء تحقيقات صحفية (متدرجة) وتغطية بعض الأحداث والقيام بجولات على الأسواق.. والمستشفيات وحلقة الخضار.. وحضور طوابير الصباح في بعض المدارس بما لا يتعارض مع دراسته الصباحية إلى أن استقر الحال به محرراً في الشئون المحلية بالجريدة.
** ورغم انشغالي بالعمل بين الجمارك وجريدة المدينة والإذاعة والتلفزيون.. إلا أن حيوية هذا الشاب حظيت مني ببعض الاهتمام.. وربما القسوة في بعض الأحيان.. بهدف تطوير مهاراته.. وتحسين مستويات أدائه.. شأنه في ذلك شأن العديد من الزملاء الذين رافقوه في هذه المرحلة ونالوا حظوظهم من النجاح كذلك.
** ولم تقتصر معرفتي به على العمل بل تواصلت خارجاً حيث التحقت بالجامعة بعد توقف طويل استغرقته رحلة إعادة بناء حياتي في جدة وتشعب أنشطتي فيها.
وفي هذا الوقت كان النهاري قد أنهى شهادة الثانوية العامة.. فانتظمنا في قسم المكتبات والوثائق في جامعة الملك عبدالعزيز وحصلنا على درجة البكالوريوس بتفوق إلى جانب عملنا في مجال الصحافة، وإن كان هو قد اختار الانتقال للعمل بجريدة البلاد فيما ظللت أنا في عكاظ.
** ومن حسن الحظ أن حصلنا على وظيفة (معيد) بقسم المكتبات والوثائق تمهيداً لابتعاثنا إلى أمريكا لاستكمال دراساتنا العليا.. وبالفعل وبعد (8) أشهر اتجهنا إلى الولايات المتحدة ووجهنا للدراسة بمدينة (كالامازو) بولاية ميتشجن وبدأنا بدورة اللغة.
** وعندما واجهتني بعض الظروف الخاصة هناك ولم أتمكن من مواصلة البعثة فقد عدت إلى المملكة.. بينما استمر النهاري في إكمال بعثته الدراسية إلى أن حصل على الدكتوراه من جامعة (UCLA) في نفس التخصص وحصل على الدرجة العلمية بكتابة رسالته عن (المكتبات الوطنية).
** وبعودتي إلى المملكة استكملت دراستي للحصول على الماجستير من القسم في جامعة الملك عبدالعزيز ومن ثم حصلت منه على بعثة بالالتحاق بجامعة القاهرة ونلت درجة الدكتوراه في العام 2004م في الوقت الذي كان فيه الدكتور الأكاديمي عبدالعزيز بالقسم.. بالإضافة إلى استئناف عمله مديراً للتحرير في جريدة البلاد، حيث كان يعمل فيها قبل سفره إلى أمريكا بدعوة من الأستاذ الكبير عبدالمجيد شبكشي -يرحمه الله رحمة الأبرار ويسكنه الجنة-.
** وهكذا تواصلت رفقتنا.. في الوقت الذي تبلورت فيه العشرة بزواجه.. ودخوله مرحلة جديدة من العمل الجاد على المستويين الصحفي والأكاديمي لتبرز قدراته بصورة أكبر ويسجل حضوره في المشهدين العلمي والصحفي.
** وعندما انتقلت للعمل رئيساً لتحرير عكاظ استمر النهاري في عمله بالبلاد، وكنا نلتقي في عملنا الأكاديمي كعضوي هيئة تدريس بالإضافة إلى علاقاتنا العائلية كثيراً، ولاسيما بعد أن تعززت الروابط بين أبنائي أيمن وعبدالعزيز والمعتز وسماهر وعبدالرحمن.. وأولاده.. محمد وجواهر وولاء وآلاء وحياة وحنين.
** وشاء الله أن تجمعنا في العمل الصحفي مرة أخرى في مكان واحد.. بالتحاق الدكتور النهاري بعكاظ في مرحلة متأخرة من المراحل نائباً لرئيس التحرير حيث تمكن من المهنة تماماً..
** وبوفاة الأستاذ عبدالمجيد شبكشي.. وقع الاختيار على الدكتور عبدالعزيز -يرحمه الله- ليتسلم مقاليد رئاسة تحرير صحيفة البلاد ويضع بصمته الخاصة فيها.. استكمالاً للبدايات الأولى التي وضعناها سوياً للقفز بتوزيع الجريدة من (200) نسخة إلى (45) ألف نسخة لأول مرة في تاريخها.
** وقد استطاع الدكتور النهاري أن يحفظ للجريدة موازنتها في فترة رئاسته لتحريرها.. رغم الظروف الصعبة التي كانت تمر بها المؤسسة.
** وعندما ترك الدكتور النهاري البلاد بعد جهود ملموسة فيها وجد مكانه الطبيعي في عكاظ ولاسيما في الوقت الذي أصبحت فيه مكلفاً بإدارة المؤسسة بالإضافة إلى رئاسة تحرير الجريدة في الوقت الذي أصبح فيه نائب رئيس التحرير أخي وصديقي الحبيب الدكتور بدر أحمد كريم مديراً عاماً لوكالة الأنباء السعودية، حيث حل محله النهاري وأكمل معنا المسيرة بنفس الروح المتوثبة والطموح العالي وفي أجواء الأسرة الواحدة التي كانت سائدة في مؤسستنا.
** وواصلنا المسيرة معاً.. بحيث شكل -يرحمه الله- ثلاثياً متناغماً مع زميليه العزيزين الأستاذ علي مدهش والدكتور أيمن حبيب.. وكان لهم دور بارز في الارتقاء بعكاظ إلى المستوى الذي وصلت إليه.. بتناغم كبير.. وتفان مثناه.
** لكن الظروف تغيرت في أواخر العام 1427هـ.. ووجدت أن استمراري في رئاسة تحرير عكاظ لم يعد ممكناً.. وأن الوقت قد حان للتوقف عند هذا الحد وبالذات لأن الجريدة تملك من العناصر من يستطيع النهوض بأمورها والحفاظ على منجزاتها الكبيرة.
** وعندما اجتمعت مع مجلس الإدارة في اجتماع استثنائي وأبلغتهم رغبتي في التوقف عن رئاسة التحرير وتفهموا ما عزمت عليه طلبوا مني ترشيح من أراه لتسليم هذه المهمة من بعدي.. وتم تطارح بعض الأسماء من خارج الجريدة.. إلا أن الجميع اقتنع في النهاية بوجهة نظري في أهمية وضرورة الاستقرار وضموا اختياري للزميل الدكتور عبدالعزيز لشغل المنصب إلى قائمة الأسماء المرشحة الأخرى.
** وبالفعل.. فقد صدرت الموافقة الرسمية على اختيار الدكتور عبدالعزيز وأن يظل مكلفاً لمدة تقترب من العام.. كان خلالها صاحب لمسات واضحة.. على الجريدة.. فيما اتسمت إدارته خلال تلك الفترة بما يعرف بإدارة الحب والتسامح وشكل بذلك صدامات عميقة مع أفراد الجهاز.. إلى أن تغيرت الظروف ليحل محله الزميل محمد التونسي رئيساً للتحرير وبدأ النهاري رحلة الراحة من جديد.
** وبين هذه المحطات تلك.. وعندما كنت أجمع بين وظيفة مدير عام مؤسسة عكاظ ورئاسة تحرير الجريدة كان لي لقاء مع الشيخ الجليل صالح عبدالله كامل -يرحمه الله تعالى- وكان خلال تلك الفترة نائباً لرئيس مجلس إدارة مؤسسة عكاظ.. وتحدثنا في ذلك اللقاء حول توجه الشيخ صالح إلى إحداث تغيرات في الإدارة العليا لقنوات (ART) التي يملكها.. وعرض علي فكرة إدارتها في الوقت الذي أراه مناسباً للانتقال إليهم.
** يومها فوجئت بعرض الشيخ صالح -يرحمه الله- وقلت له بأن خبرتي في هذا المجال معدومة.. وقراري بترك العمل بالصحافة أساساً لم يحن بعد.. حينها قال لي -يرحمه الله- أن العمل فني في جوانب معينة منه لكن يتطلب إدارة قوية وحازمة وذلك ما نحتاجه منك.. واتفقنا على أن نؤجل القرار إلى الوقت المناسب شاكراً حسن ثقته.. وكريم عرضه.. وعندها طرح علي السؤال التالي:
** هل تؤيد اختيار الدكتور عبدالعزيز النهاري في الوقت الراهن للعمل في هذا المجال؟
** أنصت لبرهة ثم قلت له: أعتقد أن الاختيار سيكون موفقاً بالعمل معكم وتحت مظلتكم وإشرافكم المباشر.. لأن الرجل لا ينقصه التفاني أو الرغبة في النجاح لكن لن يستغني عن توجيهكم؟
** ولم تمضِ أيام حتى استدعى الشيخ صالح أبا محمد -د.عبدالعزيز النهاري- وأسند إليه المهمة.. وكان قريباً جداً منه.. وتحقق للقنوات نجاح كبير بدعم مفتوح وكامل من أبي عبدالله -صالح كامل- لرجل دؤوب.. ومتفانٍ.. ونزيه.
** لكن النهاري لم يلبث أن عاد إلى عكاظ بعد ثلاث سنوات من اقتحام مجال جديد بالنسبة له.. وإن بذل فيه كل ما يستطيع.
** وخلال عمله في جميع هذه المحطات كانت روابطنا قائمة ولا سيما في جانبها العائلي.. تجسيداً لرحلة طويلة من العمل والتعاون اللامتناهي..
***
** واليوم.. وقد فقدنا الراحل العزيز بعد هذه الرحلة الطويلة في العمل الإعلامي.. فإنه لا يسع الإنسان إلا أن يترحم على رجل كان دمث الأخلاق حسن المعشر.. وطيب القلب إلى أبعد الحدود..
** وقد يظلمه الكثيرون ممن لم يعرفوه -عن قرب- حين يتصورون هدوءه.. ونزوعه إلى السلام والبعد عن المظاهر.. والتركيز على أداء المهام والواجبات وعدم الخوض فيما لا طائل من ورائه.. يظلمون حين كانوا يظنون بأنه «قائد الظل» ولو عرفوه عن قرب لعرفوا فيه شخصيته القادرة على العطاء والتأثير بعيداً عن الضجيج والاستعراض.
** وما لا يعرفه الكثيرون عنه هو أن الرجل -يرحمه الله- على درجة قصوى من التدين.. ويكفيه أنه كان إماماً لمصلى في حي الهنداوية.. حيث كنا نسكن.. ولما يتجاوز سن العشرين.. لماذا؟! لأنه ربي على يد شيخ فاضل.. والده (الشيخ محمد النهاري) والذي تعلمنا منه هو.. وأنا على يده الكثير من الفضائل طوال حياته إلى أن توفاه الله.. وهكذا عاش الابن.. نموذجاً في الخلق ومحبة الناس.. وعمل الخير.. -رحمه الله رحمة الأبرار-..
** ويكفيه فخراً بما حققه.. وبما تركه لنا من أبناء صالحين.. فابنه الأكبر «محمد» قيادة بنكية متميزة.. وناجحة.. وابنته الدكتورة (جواهر) أكاديمية محترمة.. وابنته (ولاء) سيدة فاضلة وذات بصمة اجتماعية بارزة.. أما ابنته آلاء فإنها على وشك الحصول على الدكتوراه في العلوم الطبية.. بالإضافة إلى ابنتيه الصغيرتين (حياة) و(حنين) وينتظرهما مستقبل باهر..
حصل كل هذا لأن الرجل تعب على نفسه وعلى أبنائه وساعدته في كل ذلك حرمه المصون، فهي سيدة فاضلة.. وواجهة اجتماعية محترمة.. ولا يملك الإنسان إلا أن يترحم عليه ويدعو لهم بالتوفيق لإكمال مسيرتهم الظافرة التي رسمها لهم (الأب النهاري) بعناية فائقة..
** لقد رحل أخي.. وصديقي.. ورفيق مسيرتي الدكتور النهاري بعد رحلة عمر تجاوزت الخمسين عاماً لم نختلف خلالها إلا في عشقه الجنوني «لفريق الأهلي» وتشجيعي المتوازن «لفريق الاتحاد» لكن كان خلافاً بعيداً عن التعصب.. وقريباً من الإعجاب بتميز الاثنين في فترات مختلفة.
** **
- بقلم د. هاشم عبده هاشم