د.عبدالعزيز عبدالله الأسمري
من يقرأ التاريخ يلمس حقيقة مقولة «التاريخ يعيد نفسه» على الأقل عند حدوث الجوائح والأوبئة عبر العصور، ففي القرن الماضي، تكرَّر حدوث الأوبئة على نحو متقطع، حيث كان آخرها تلك الأوبئة الثلاثة التي داهمت البشرية في عام 1918 و1957 و1968، وأدت إلى مقتل ما يقارب 43 مليون شخص على مستوى العالم. والقرن الحالي ليس باستثناء عن سابقه، فقد انتشر في مطلعه عدد من الأوبئة الفيروسية، لعل آخرها الجائحة التي نعيشها حالياً جائحة «كرونا -19 المستجد» والتي لا تزال تجتاح العالم وتحصد منه مئات الآلاف من الأنفس البشرية.
على الرغم من ذلك، بقيت قدرتنا محدودة في التنبؤ بالزمان والمكان الذي يمكن أن يظهر فيه وباءً أو جائحة أخرى في المستقبل المنظور، رغم أن التاريخ والعلم يشيران إلى حتمية ظهور وباء أو أكثر خلال ما تبقى من هذا القرن. وللاستفادة من الدروس التي مررنا بها والخبرات التي جنيناها من تلك التجارب، يجب أن نبلور ونطور خطط ورؤى لتجاوز أمثالها في المستقبل، وذلك من خلال صياغة إستراتيجيات وطنية شاملة تساهم في سرعة تجنب المزيد من الخسائر والأضرار في المحن القادمة، وتكون قائمة على جميع أدوات القوة الوطنية وبإجراءات تنسيقية من جميع القطاعات الحكومية، والقطاع الخاص، وأفراد المجتمع، وذلك للتأهب والاستجابة لأي وباء قد يحدث والتخفيف من آثاره، فالمواجهة لا تتطلب وقف انتشار الوباء والحد من تداعياته فحسب، بل المحافظة على البنية التحتية وتخفيف الآثار السلبية على الاقتصاد الوطني واستمرار عمل المجتمع.
يجب أن تكون هذه الإستراتيجية إطاراً لخطط مستقبلية مرنة تتماشى وتتفق مع إستراتيجيات الأمن الوطني والأمن الداخلي، حيث يشارك في التخطيط بها جميع القطاعات الحكومية على كافة المستويات والقطاع الخاص والمجتمع، ليتم بعد ذلك دمج تلك الخطط في خطة وطنية إستراتيجية شاملة، تنفذ بشراكة تكاملية من الأطراف الثلاثة. فالدولة تستخدم أدوات القوة الوطنية للتصدي للخطر الوبائي، بينما يؤدي القطاع الخاص دوره في التأهب قبل بدء الجائحة -كونه جزءاً من الاستجابة الوطنية- كإرساء أخلاقيات مكافحة العدوى وإنشاء نظام طوارئ للحفاظ على تسليم السلع والخدمات الأساسية وإقامة شراكات مع أعضاء القطاع لتوفير الدعم المتبادل، ويأتي دور المجتمع كالاستعداد لتحمّل المسؤولية الفردية في الحد من انتقال العدوى والتثقيف عن الجائحة للتأهب قبل حدوثها، واتباع إرشادات الصحة العامة.
الجائحة ظَرْفٌ فريد يتطلب إستراتيجية شاملة بخطط مرنة من الجهات المشاركة، تتجاوز الحدود الصحية والطبية، بحيث تشمل تحقيق الاستدامة لعمل الهياكل الأساسية الحيوية وأنشطة القطاع الخاص وحركة السلع والخدمات في جميع أنحاء البلاد مع مساهمة فعَّالة من المجتمع فيها، كونه لا يمكن الاستمرار بالنظر لمهمة التصدي للأوبئة بأنها مسؤولية حكومية بحتة، دون مشاركة القطاع الخاص وأفراد المجتمع فيها.