د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
.** استوقفتْه مفردةُ «يعمهون» التي وردت في أكثرَ من آيةٍ كريمةٍ تاليةً وعيد المدٍّ (ويمدُّهم) في سورة البقرة، وفي إطار الترك «ونذرهم» في سورة الأنعام، و»يذرهم» في سورة الأعراف، ورأى من حروفها معنَيَي «العمى» و»العَمَه» في إطاري «التفاعل» و»التجاهل»، ثم عاد إلى التفاسير فوجدها تبحرُ في بحث دلالات الكلمة وارتباطها بالإمهال والإهمال مع زيادةٍ لمن شاء التمادي.
** لم يجد اختلافًا بين المفسرين واللغويين حول أن «العَمهَ» يعني الحيرة والتردد كما ورد عن ابن عباس والخليل وابن فارس والزجّاج، وهو كافٍ لتوصيف بؤسِ من سكنته هذه الحالة فانتشى بطغيانٍ فُسِّر بالبغيَ وتجاوز الحد وكذلك بالكفر والضلال، وفي مبانيها ومعانيها ما يُذكِّر بعظمة القرآن الكريم وثرائه العقليّ والقلبيّ والشرعيّ والمعرفيّ.
** استعاد بهذه الوقفةِ مفهومًا يمكن وسمُه بالعمه الثقافيّ حيث التجاوزُ والحيرةُ تتجاوران وتملآن ساحاته ومساحاته، وفيهما نظرتان إلى المثقف والمادة الثقافية بما يتجه نحو اعتداد الشخص بمَقُولهِ دون تبديل، وانحراف منقُوله بالتأويلٍ، وكلاهما مُوحٍ بعمهٍ ذاتيٍ وغيريٍ يقع فيهما المُلْقي والمتلقي، وكثيرًا ما انتصب السؤالُ التلقينيُّ: ماذا يقصد؟ وإلام يشير؟ وسيظل الاستفهامان متلازمين مع كل نصٍ له قارئون من خارجه، سواءٌ أجاؤوا من مدرسة ناقدةٍ أم من جهةٍ فاحصة، ولن تكفيَهما إجابة الفرزدق: «علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا».
** هنا مسارٌ أولُ في «العمهِ» بما يعني حيرة الفهم وتخطيَ الأَفهام؛ فما نزال نختلف بشأن تراثٍ الإحالات والاحتمالات، كما في النصوص الصوفيّة والفلسفية والعَقدية التي احتملتها قرونٌ من جدل النصوص ولجاج الشخوص، والأمرُ مُوكلٌ بثقافة الفرد والمجموع ومقدرتهما على الاقتناع بالآخر ضمن حدودٍ وقيودٍ معظمها لا ينتمي إلى ذاتيتهم وأذهانهم، ومن يبدو أثيرًا عند قوم قد يراه غيرُهم أسيرا.
** وللعمه الثقافي مسارٌ آخرُ أكثرُ وعورةً؛ فلا نكادُ نجدُ مشروعاتٍ مجمعًا عليها بين الأطياف المتضادة بالرغم من انتقال الوقائع والمواقع من الضد إلى الضد خلال فترة زمنيةٍ ساد فيها فئامٌ زمنًا وسواهم زمنًا غيره، ولولا أن للثقافة قوتَها الذاتية لتوارت من المشهد ولم يعبأْ بها من لم يستسلموا لعبثية التجاوز وضلال الحيرة.
** قد يفسر هذا تضاؤلَ دورِ المثقفين وتواريَهم عن صناعة المشهد المجتمعي العام كما كانوا وقت أن لم يكن لدينا وصلٌ ولا تواصل عبر تناقل مقالات المؤثرين ومؤلفاتهم؛ فربما قرأ الصحيفةَ الواحدةَ رقمٌ كبير وتداول الكتابَ الواحد جمعٌ غفير، وهم اليوم ناؤون عن ميادين التغيير والتأثير؟
** لعل الفارق بين الزمنين عمقُ الوعي وثراء الأوعية، وربما يكون السبب عمهًا فيهم أو عنهم؛ فالمثقف لم يَثبت في مكانه ولم يُقنِع بإمكانه فصار هامش متنٍ لم يخترْه وتابعَ قطيعٍ لم يروه، وليت من ينتمون إلى الثقافة يتأملون قبلًا فلا يألمون بعدا.
** العمَهُ إبحارٌ بلا بحَّار.