م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1. أحد أبواب النقد التي توجه للتنوير من الدكتور طه عبدالرحمن هي في الجزم بأن العقل يعقل كل شيء، وأن الأفضلية للإنسان وحده في سيادة الطبيعة، وأن كل شيء قابل للنقد فلا مقدسات ولا ثوابت.. وكلها تعد مآخذ على التنوير.. فلا عقل يعقل كل شيء.. وكل العقل الذي وصل إليه التنوير الأوروبي هو عقل صناعة الآلات والمخترعات.. أما منح الإنسان الأفضلية المطلقة في تسيد الطبيعة فهذا ادّعاء.. نعم سخَّر الله الطبيعة لخدمة الإنسان لكن تظل الطبيعة هي السيد الذي ينصاع له الإنسان ولا تنصاع له.. أما قضية أن كل شيء قابل للنقد فهذه مصادمة صريحة لثوابت الدين.
2. ومن أبواب النقد لفلسفة التنوير أنه يدعو إلى «فصل الحداثة عن التراث».. فكيف يكون ذلك؟ فالتراث ما هو سوى امتداد لما سبقه.. وما الحداثة سوى امتداد لما سبقها أيضاً.. وهو الذي نسميه التراث.. فالحداثة تجديد وتطوير لأصل قائم وليست قطعاً له واختراعاً بديلاً له إلا إذا كان ذلك البديل فكراً مستورداً.
3. ومن المآخذ على التنوير الدعوة إلى «فصل السياسة عن الدين».. وهو مماثل في شناعة خطئه لـ»فصل الحداثة عن الدين» أو «فصل العقل عن الدين».. وهي كلها دعاوى تؤدي إلى إلغاء القدسية عن أي شيء وكل شيء.. وهذا فيه قطع كامل لماضي الناس وتاريخهم.. والتنوير غايته الحداثة.. والحداثة هي مسيرة متكاملة وليست شيئاً يمكن الهبوط إليه بمظلة.. أما قضية «فصل العقل عن الدين» فهي تحصر الدين في حيز اللا معقول وتجعل فكرة الدين فكرة أسطورية خرافية.. وهذا مصادم للروح الإنسانية المكملة للإنسان.. هذا إذا أردنا أن نقول إن الإنسان روح وعقل في جسد.
4. يُكَذِّب الدكتور عبدالرحمن دعاوى أن نتيجة التنوير هي حتماً الحداثة.. وأن الحداثة تقدّم وأنها نمو اقتصادي.. ولا يريد التنويريون الاعتراف بأن الحداثة كانت نتائجها كارثية على الإنسان وفطرته.. وأن الأصل في الحياة هو الإنسان لا الحداثة.. وأن الحداثة رغم تقدمها المادي الشامل إلا أنها أيضاً أتت بأسلحة الدمار الشامل والاستبداد الشامل.. وحصرت العقل في الاتجاه المادي.
5. ثم يرد القول بأن الحداثة تعني النمو الاقتصادي فهذا حوَّل الحداثة إلى وحش دمر الحياة الاجتماعية.. ورفع من جشع القوي في استغلال الضعيف.. وصار فيه زيادة الإنتاج تغلب على حقوق الإنسان.. فلا سلطة تعلو على سلطة السوق.. فأصبح النمو الاقتصادي هو الغاية وليس رفاه الإنسان هو الغاية.. بل إن صحته وتعليمه وحقوقه وحريته تأتي كوسائل تخدم غاية واحدة وهي النمو الاقتصادي.. وتم تدمير البيئة في سبيل ذلك النمو الاقتصادي الذي أصبح هو الغاية.
6. ويواصل الدكتور عبدالرحمن منتقداً التنوير فيرى أن من ركائز التنوير الفكر الفرداني وهذه تفرقة.. والدفع بالعلمانية على أساس أنها لا تحارب الأديان، بل تُحَيِّدها وهذا كذب.. وأن قيم الحداثة هي قيم كونية وهي دعوة إلى بسط هيمنة قيم مجتمع واحد على البقية.