د.صالح العبدالواحد
لنتخيل أن الجهات الصحية في يوهان استمعت إلى إنذار طبيب العيون الصيني «لي وين ليانغ» حول الحالات الأولى لالتهاب الجهاز التنفسي الحاد التي لاحظها في مستشفى «يوهان» المركزي، ونتخيل أنه بدلاً من التحقيق معه من قبل الشرطة وتأنيبه تم التعامل مع التحذير بصورة احترافية (مهنية) عاجلة أدت إلى التعرف على الفيروس المسبب واحتوائه مبكرًا قبل أن يموت الطبيب وينتشر المرض في الإقليم.
لو حدث ذلك على الفور لما كنا سمعنا وعانينا من جائحة كورونا التي أرعبت البشر واستهلكت كل موارد العالم.
لا داعي للخيال، فقد حدث شيء مطابق لهذه القصة في المملكة العربية السعودية قبل عشرين عامًا، وبالتحديد في منطقة «جازان» مع الاختلاف الكلي في التعامل مع الأزمة.
أصاب البلاد وقتها وباء فيروسي اسمه «حمى الوادي المتصدع» يصيب هذا المرض الفيروسي الماشية، وينتقل منها إلى البشر، ليتسبب في حدوث حمى نزفية حادة قد تؤدي إلى الوفاة، وقد يسبب الفيروس التهابًا شديدًا في المخ، أما الناجون من المرض فقد يتسبب الفيروس لبعضهم بفقد البصر الجزئي أو الكلي نتيجة التهاب في شبكية العين، هذا إضافة إلى الخسائر الاقتصادية الهائلة بسبب نفوق 90 في المائة من صغار الماشية وكساد تجارتها، وهي تعد موردًا اقتصاديًا مهمًّا في بلادنا.
موطن الفيروس الأصلي في الوادي المتصدع في كينيا، لكن الفيروسات لا تعترف بالحدود، وقد وصل الفيروس عن طريق البحر الأحمر إلى اليمن، ومن ثَمَّ إلى الحدود الجنوبية الغربية للمملكة العربية السعودية.
تم، بفضل الله، تشخيص المرض والإبلاغ المبكر عنه لوزارة الصحة عن طريق الدكتور محمد الحازمي، استشاري الأمراض المعدية، الذي تابع علامات المرض لدى الحالات الأولى من المرضى، وتوصل بفراسة الطبيب الوطني الناجح إلى جمع الأعراض والعلامات المرضية، ولتشخيص المرض، بالرغم من عدم وجود حالات سابقة للوباء خارج القارة الإفريقية.
بعد إرسال العينات المخبرية إلى الولايات المتحدة تم تأكيد التشخيص مخبريًّا بعد ذلك بأيام في مختبرات مركز التحكم بالأمراض CDC في أمريكا.
لقد تم التعامل مع المرض بكل احترافية، وتقديم العون للدكتور الحازمي وفريقه في الوقت المناسب بخبرات وطنية ساعدت في إعداد خطط المكافحة واحتواء المرض، كل حسب اختصاصه، وبعد ذلك أصبح كل شيء سهلاً، فقد تولى المعضلة الطبيب المتخصص، وتعرفنا على مصدر المرض (كينيا) وطريق الوصول (اليمن) وتمت مكافحة البعوض المسبب، وتقديم العلاج المناسب والدعم المتخصص، والحفاظ على مليارات من الاقتصاد العام للدولة بعد أن تمت المحافظة على صحة المواطن.
لم يتم إسكات الطبيب، كما هي الإشاعة لما حدث مع الطبيب الصيني، بل تم احترامه وتقديره ومنحه كافة الصلاحيات، وتكريمه لاحقًا من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله-، بوسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى.
لم يتم وضع إجراءات من دون جدوى علمية، ولم يتم قتل الماشية والتخلص من مصدر الرزق للمواطنين دون أي سبب.
الخطوة الأولى لقطع الطريق ومكافحة الوباء كانت التشخيص الصحيح، ومعرفة خصائص المرض ومكافحة انتقاله، فأمكن بالتالي تحجيم الخسائر الاقتصادية والبشرية.
لقد مكَّن التشخيص الصحيح من اتخاذ الإجراءات السليمة التي تبدو سهلة الآن، حيث تخلصت البلاد من هذا الوباء، وتم إيقافه فورًا ومنعه من الانتشار، ليس في أنحاء البلاد فقط بل في الدول المجاورة، فقد استفادت اليمن من التجربة السعودية بشكل كامل، حيث تم إيقاف استيراد الحيوانات من كينيا، ومعالجة الأسباب المؤدية لانتقال المرض بالتعاون الطبي المباشر.
لم نسمع بمرض «حمى الوادي المتصدع» وآثاره المدمرة بعد ذلك، وهذا بفضل الله ثُمَّ بفضل ما تمنحه هذه البلاد من فرص علمية لأبنائها في الإبداع والتطوير وتحمل المسؤولية.
ومن الأمثلة الأخرى لعلاج الأوبئة ومكافحتها في المملكة التعامل مع وباء متلازمة الشرق الأوسط التنفسية «ميرس». وسببه فيروس ينتمي لنفس فصيلة كورونا، وله نفس الأعراض المرضية، وإن اختلفت شدة المرض أو سرعة انتشار العدوى، وحيث إنه من نفس فصيلة الكورونا فإن له نفس سبل الوقاية والإجراءات العلاجية.
كان الحيوان المتهم في حضانة فيروس متلازمة الشرق الأوسط التنفسي الذي أصاب المنطقة عام 2013 هو الإبل (مقارنة بالخفاش الصيني مع كوفيد - 19) ومعرفة ذلك مكنّ من اتخاذ كافة الإجراءات لمنع سلسلة الانتقال من المصدر إلى المستقبِل النهائي، وهو الإِنسان. لقد تم تحجيم الخسائر بشكل كبير وتم منع انتشار المرض كوباء عالمي.
إن الإجراءات الإدارية التي قامت بها حكومتنا، التي لاقت كل تقدير من المواطنين والمقيمين - ولا يسعنا إلا تقديم الشكر لكل من أسهم بهذه الإجراءات، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين وولي العهد الذي يتابع كل صغيرة وكبيرة على مدى الساعة، حفظهم الله ورعاهم - أسهمت جميع هذه الإجراءات في الحد من جعل المملكة مركز انتشار عالمي للوباء، حيث إن بلادنا هي قلب العالم الإسلامي النابض.
إن تقديم الخدمة الطبية مجانًا، حتى لمن هم مخالفون لنظام الإقامة، يثبت مكانة حكومة المملكة العربية السعودية المتقدم في مجال الرعاية الصحية، في سابقة لم تحدث في أي مكان في العالم، فهذه بلاد الحرمين، ومنها تصدر حقوق الإنسان الحقيقية، ويتم تطبيقها دون تضخيم الإعلام وتغليف المدَّعين.
تمتاز الأوبئة بقواعد عامة للحماية من انتشارها ثم حصرها والقضاء عليها، ولكل وباء أسس ثابتة وعوامل متغيرة يعرفها العلماء المختصّون، وعلى الرغم من وجود منظمة الصحة العالمية في جميع دول المنطقة، عن طريق ممثلين لها لرصد ومتابعة وتقديم المساعدة في التشخيص وطرق الوقاية، إلا أن الأطباء السعوديين قادوا أهم الأوبئة في السابق بكل اقتدار، لتتجاوز الدولة أزمات صحية ومالية وخسائر متعددة، ولله الحمد.
لا يمكن مناقشة الدور المنوط بمنظمة الصحة العالمية هنا، كما لا يمكن معرفة الدور الحقيقي وحجم الصلاحيات التي تتمتع به في الدول، وبدون أدنى شكل فإن الكثير من المعلومات يتم معالجتها بشكل سري.
من متابعتنا لنجاح المملكة في هذه المجالات فإن الوقت قد حان لتشكيل «هيئة وطنية لمكافحة الأوبئة» حيث لا بد من الاعتماد على الكوادر الوطنية لهذه المراكز الحساسة التي لا تقل أهمية عن وجود مركز للأمن الوطني.
إن وجود خبير علمي في حالة وجود وباء في أي مكان في العالم مهم جدًّا؛ كي يقوم بإدارة الأزمة بعيدًا عن الضغوط وعمل اللجان البيروقراطي والتسلسل الإداري. وتحتاج الهيئة للعمل مع جميع المؤسسات الوطنية بكل ندية للوصول لأفضل النتائج.
إن بناء الخبرات الوطنية، حسب الخطة الموضوعة من قبل حكومة المملكة العربية السعودية التعليمية منذ نشأة البلاد قد آتت أو كلها، وأثبتت أن وجود الخبرة الوطنية في المكان المناسب يعد أهم عنصر للنجاح، فلا يمكن أبدًا انتظار الحلول الخارجية والتوصيات العالمية.
والسواعد التي نفذت أول مؤتمر افتراضي لدول العشرين هي السواعد الوطنية التي يوجد لها مثيل في كل إدارة من هذا الوطن.
هذه الهيئة هي التي من الممكن، في حال وجودها، أن تعلن حالة الطوارئ دون انتظار منظمة الصحة لتقوم بإعلان الوباء «جائحة عالمية».
تعمل الهيئة السعودية بشكل مستقل لجمع المعلومات من أنحاء العالم، ووضع الخطوات المناسبة لمكافحة الأوبئة التي قد تصيب البلاد قبل وصولها لمرحلة «جائحة» وقبل أن تؤثر في حياة المواطن واقتصاد البلاد. هذه معلومات دقيقة ومهمة، يترتب عليها إيقاف الرحلات الجوية مع المناطق الموبوءة مباشرة، وعزل مباشر لمن يصل من أي منطقة فيها اشتباه، ولذلك يعد وجود إدارة مستقلة ضرورة ملحة لأهميته القصوى في الأمن الوطني والصحي والغذائي والصناعي.
لقد لاحظنا قدرة الفيروس على تجاوز جميع العقبات والحدود ووسائل الحماية، وقدرته على إصابه كبار المسؤولين في العالم متخطيًا أجهزة المراقبة والحراسة الشخصية، من هنا نجد أن أهمية هذه الهيئة لا تقل عن أي مؤسسة أمنية أو اقتصادية في البلاد.