د.فوزية أبو خالد
على الرغم من صدور قانون الحقوق المدنية بالولايات المتحدة الذي يساوي في حقوق وواجبات المواطنة بين السود والبيض أي الأمريكيين من أصول إفريقية وأي عرقيات أخرى وبين الأمريكيين من أصول أوربية عام 1964 بعد قصة عنف عنصري طويلة ودامية وبعد نضالات وحركة مقاومة شعبية سامقة، فإن الدولة والمجتمع الأمريكي ومعهما العالم برمته لم يشف بعد مع الأسف من عنصريته لا على المستوى الميداني والعملي اجتماعياً واقتصادياً ولا على المستوى الثقافي والسلوكي اليومي.
وفي هذا لا يحتاج أي إنسان لحاسة شم حادة ولا إلى حاسة سمع مرهفة ولا إلى عيون مشرعة على مداها ليلمس لمس اليد رائحة العنصرية الكريهة وليسمع أصواتها النشاز وليرى وجهاً لوجه أفعالها ونتائجها البشعة كما شاهد العالم أجمع بقاراته السبع غيلة المواطن الأمريكي الأسود جورج فلويد في وضح النهار، وسط شارع عام، بمدينة أمريكية كبيرة هي منيابولس, وبولاية عتيدة من الولايات الأمريكية الاثنتين والخمسين هي مينيسوتا، على يد آثمة ملطخة بالعنصرية لضابط شرطة أمريكي أبيض يدعى «ديريك تشوفين». وإذا كان ذبح إنسان بدم بارد على رؤوس الأشهاد يحدث في مدينة كبيرة وفي أمريكا البلد الذي يتربع على مدخله الرئيسي بمدينة نيويورك تمثال الحرية برمزيته الفكرية والسياسية ويقع على أرضه المبنى الرئيسي للأمم المتحدة الرمز الدولي لحقوق الإنسان ويطرح نفسه كقوة عظمى بمسوغات عسكرية واقتصادية وتقنية وقيمية كبرى، فلا بد أن القياس على ذلك الواقع العنصري الفاضح سيكون أشد استفحالاً وأثقل وطأة في الحواري الخلفية وخارج نطاق المدن الكبيرة لأمريكا نفسها ولسواها من مناطق العالم سواء تلك الملتهبة بالحروب والفقر والتخلّف أو المتسترة بورقة توت من قشرة الحضارة الغربية وما بينهما من متون وهوامش دولية متعدِّدة.
ولهذا لم يكن غريباً أن تشعل شرارة غيلة فلويد تلك الحرائق المستعرة في الصدور وفي المواقع المقنعة والبارزة ككرة نار عابرة مغارب الكرة الأرضية ومشارقها.
إلا أن اللافت لي حسب مشاهداتي بمنهاتن نيويورك وحسب ما تابعته من عدة قراءات تحليلية وإن عاجلة في خضم الحدث لأساتذة جامعيين ولمقالات في صحف معروفة بمواقفها النقدية هو أن موجة الاحتجاجات الجارية في أمريكا كلها والتي خرجت مخاطرة بحياتها في عزِّ جائحة عالمية لا يفصل بينها وبين العدوى بداء فتَّاك إلا كمامة رقيقة، لا تتظاهر لمجرد تسجيل موقف على الفعل الإجرامي لمقتل رجل أسود بيد رجل أبيض، بل إنها تفتح به الملف السري والسافر لاستمرار العنصرية كعنصر أساسي من مكونات الثقافة والسلوك اليومي الأمريكي بعد ما يزيد على نصف قرن من قرار إلغائها. وفي هذا السياق التحليلي فإن احتجاجات اليوم تطرح أمريكياً أسئلة جذرية على تلك العنصرية العميقة والمتأصلة في بنية المجتمع الأمريكي ومجتمعات معاصرة أخرى والمدعومة من قِبل سلطاته المحافظة والديموقراطية معاً على نسبية ذلك وتعدّد تدرجاته. مع ملاحظة ما تبديه تلك الاحتجاجات بأسئلتها الجارحة من تأكيد على أن العنصرية في واقعها اليومي وفي صلب تكوينها ليست إلا سبباً ونتيجة معاً لميزان العدل المختل بين مختلف القوى الاجتماعية العرقية والإثنية و»الجندرية» داخل النظام الأمريكي والعالمي معاً القائم على ذلك الخلل العدلي (بيض سود، غنى فاحش فقر مدقع, مواطنين مهاجرين، رجال نساء ... إلخ). إلا أن مثل هذا الطرح الجذري قد لا يصعب مهمة المحتجين وحسب، بل يصعد مواجهتهم، حيث إن أي محاولة جادة لمعالجة ذلك الخلل المستهدف من جذوره يعتبر تهديداً بتقويض عمود أسياسي من أعمدة النظام الأمريكي نفسه. ولهذا فإن هذه الأسئلة في مستواها الأعلى أسئلة وجودية وليست أسئلة سياسية وحسب.
ولإضاءة هذا التحدي المركب لـ»جائحة» احتجاجات الشارع الأمريكي رأيت تسجيل عينة مما شكَّل مواقف يومية مشاهدة بمدينة نيويورك لربطه مع سياق الحدث ليس بوصفه حدثاً عرضياً، بل بوصفه مفتاحاً للجراح المزمنة العميقة التي تقود الاحتجاجات بأمريكا وخارجها اليوم وأيضاً باعتباره تعبيراً عن كيفية التعامل مع الأسئلة العميقة التي تطرحها الاحتجاجات. وتتمثَّل هذه العينة في المواقف التالية:
1- موقف يعترف بشرعية الاحتجاجات ويثمِّن سلميتها ويبدي تعاطفاً مع مطلبها بتقويض العنصرية. ويتبنى إعلامياً هذا الموقف كل من حاكم نيويورك ورئيس بلديتها. وقد تمثَّل ذلك في موقف رافض وباعتداد لمقترح رئيس الدولة السيد ترامب باستقبال الجيش والحرس الوطني وإنزاله إلى الشوارع لإنهاء الاحتجاجات. فهما أي أندريه كومو ودي بلازيو على ما بينهما من تباين نسبي في إدارة الموقف يجنحان لتعامل أكثر استقلالية عن موقف الرئيس الأمريكي، وبالتالي أكثر عقلانية وانسجاماً مع « قيم العدل وحرية التعبير والتظاهر السلمي «التي تمثّلها نيويورك كولاية ديموقراطية أو أميل بغالبية الناخبين فيها لذلك».
2- هناك بالمقابل مواقف محاولة تحوير المشهد الحقيقي وتحويله من مشهد احتجاجي على فكرة العنصرية والخلل العدلي ومن مطلب مشروع باجتثاث العنصرية إلى مشهد تبسيطي لا يريد أن يرى في الاحتجاجات على العنصرية أكثر من عمليات شغب مبالغ فيها على مقتل رجل أسود على يد رجل أبيض بينما الأمر برمته حسب أصحاب هذا الموقف لا يعدو أن يكون مجرد خلل سلوكي فردي في مؤسسة الشرطة والبوليس على مستوى الولايات والمدن دون تمحيص أو مع تعتيم على واقع أن دربة الشرطة على العنف جزء من كل مؤسسة الدولة وليس مؤسسة الشرطة وحسب في التعامل مع المستضعفين حفاظاً على الامتيازات الناتجة عن استمرار الاختلالات العدلية باسم المحافظة على الأمن في جانب كما أنها جزء من خبرة مواجهة العنف الثاوي في الوسط المجتمعي في معتزلات الأحياء الفقيرة السوداء والملونة.
3- هناك الموقف المتوتر والمتذبذب بين الميل للتعامل مع مقتل فلويد كظاهرة فردية تحدث كل عدة سنوات كخطأ فردي وبين النظر لها كديدن متأصل في بنية الدولة والمجتمع وليس كعارض فردي في مؤسسة الشرطة. ولذلك وجدنا من يستحضر قوائم بأسماء من قتلوا تاريخياً على يد العنف البوليسي وينشرها بجانبها ذلك الشعار الذي كتب على امتداد الشوارع المحيطة بالبيت الأبيض وحمله المتظاهرون على اختلاف ألوانهم «حياة السود مهمة».». black life matters››
4- يُضاف لذلك تلك المواقف التي حاولت عن عمد أو عن سوء تقدير, على فرض حسن النيَّة، أن تخلط بين محاولات النهب نتيجة الحرمان المزمن وما أضافته تفاقمات الجائحة من بطالة وفراغ تخريبي وبين الاحتجاجات السلمية بشعاراتها ومطالبها السياسية الرامية لتغيير عدلي يعيد الاعتبار لأمريكا نفسها بعد أن بلغت انحيازاتها العنصرية ذروتها في اللحظة الراهنة.
5- موقف من بعض الفئات ذات المظلومية نفسها ينحي باللائمة على مجتمع السود تحديداً ويرى أنهم جزء من المشكلة باستسلامهم للعجز والفقر والتسرّب من التعليم وانغماسهم في المخدرات والعنف الأسري والعنف عموماً. وهو موقف لا يخلو من التوجه الاستعلائي بلوم الضحية الذي قد تصح فيه مقولة «فانن» عن الأقنعة البيضاء.
6- مواقف تريد عمل مصالحة بين جهاز الشرطة وبين المجتمع وإعادة مجد الستينات والسبعينات يوم كان البوليس ينزل إلى الشارع في المظاهرات السلمية المصرّحة لحماية المتظاهرين وليس لسحلهم، وقد جرى بعض محاولات ذلك من خلال تجنب بوليس نيويورك في بروكلين وفي هارلم وكوين وبرونكس من استخدام الرصاص المطاطي وخراطيم الماء والغاز المسيل للدموع مع المتظاهرين، وكذلك توقيف رجال الشرطة في «بافلو»الذين مارسوا عنفاً بربرياً بواحاً أمام الكاميرات تجاه مسن أعزل.
إلا أن الجدير بالذكر أن تلك المواقف على تنوّعها من مواقف التعامل مع الحدث والاحتجاجات كسؤال وجودي وسياسي إلى التعامل معهما كحالة طارئة لا كإشكال مؤسسي داخل بنية النظام تكشف عن واقع إشكالي عميق لن يجدي حلّه بتهدئته أو تأجيجه لمجرد تمرير انتخابات لا تملك إلا تكريسه وإن أدعت علاجاً مؤقتاً لظلم مزمن.