رشيد بن عبدالرحمن الرشيد
أزف الرحيل في فرحة العيد ليعلن الوداع والانتقال إلى دار أخرى.. تاركًا لنا الأسى والحزن مع رضى بالقدر.. وداعا لم يمهلنا نظرة أخيرة لذلك الوجه الطيب والجسد الطاهر، لكن رحلة الحياة لها محطة أخيرة وما يخفف مصابنا أننا نحسبه من الذين استعدوا لها بما يرضي الباري.. رحل شيخنا العم عبدالله والألسن تلهج له بالدعاء والرجاء أن يثبته الله بالقول الثابت وطالبة له الرحمة والغفران.
رحلة الشيخ في الحياة وطلب العلم لم تكن ناعمة ومفروشة بالورود.. لكنها قصة كفاح منذ نعومة أظفاره وفي سن الثامنة كان هاجس التعليم شغله الأول فالتحق لدى المعلم محمد الناصر الرشيد ليتعلم الحروف من خلال اللوح ويحفظ قصار السور.. لكن سقف همته أعلى فالتحق بمدرسة ناصر سالم الضويان ليمارس الكتابة على الألواح والقراءة والأهم هو فرحته بحفظ القرآن.. ولما وصل عمره إلى الثانية عشرة التحق بمدرسة الشيخ محمد بن عبدالعزيز الرشيد قاضي الرس في منافسة شريفة مع زملائه لطلب العلم الشرعي والنهل من هذا النبع العلمي الذي شكل ملكة الشيخ العلمية والشرعية، ففي حضرة الشيخ محمد تعلم (التلميذ) عبدالله الأصول الثلاثة: كتاب التوحيد وآداب المشي للصلاة وكشف الشبهات للشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- ومنظومة الرحبية في الفرائض والأجرومية والملحة بالنحو.. وكان يتعلمها نظرًا واطلاعًا ولاحقًا يقوم بحفظ المتون.. واصل (طالب العلم) عبدالله دراسة زاد المستقنع وبلوغ المرام فحفظه واستمع إلى شرح الشيخ وإيضاحه.. ثم انتقل إلى قراءة الصحيحين والسنن الأربع لأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وشروح الحديث والفقه..
لكن فرحة الشيخ عبدالله بالجلوس لدى الشيخ محمد (قاضي الرس) والاستزادة من سعة علمه تلاشت وخالطها الحزن والأسى هو وزملاؤه.. حيث صدر أمر الملك عبدالعزيز بنقل القاضي (محمد بن عبدالعزيز الرشيد) إلى الخرمة عام 1365هـ وفقده الأهالي لما كان يتمتع به من خلق فاضل وسيرة حسنة وعلم غزير... لكن رحلة طلب العلم لم تتوقف فقد استقبلت الرس قاضيها الجديد الشيخ صالح إبراهيم الطاسان) فاستمر عبدالله مواصلاً طلب العلم مع شيخه صالح.. وتلك الفترة كانت المدارس النظامية قد فتحت فاتجه إليها البعض.. لكن شيخنا عبدالله من القلة الذين لم يسلكوا ذلك وبقي بالقرب من الشيخ صالح الطاسان ينهل من علمه وخصوصًا كتب الفقه ويقول إن الشيخ حريص على أحكامها وتمحيصها وربما يستشير بعض تلاميذه فيما يشكل عليه.. قرب الشيخ من القاضيين جعله يكسب (فن) القضاء والتعامل مع الخصوم وإصدار الأحكام حتى أصبح مشروع قاضٍ قادم.
قصة الشيخ عبدالله مع القضاء رواية لطيفة ومثيرة فهو لم يسع له ولكنه عرض عليه من غير رغبة وإرادة.. ثقة به ولما توسم به من خير وصلاح ففي شهر ربيع الأول عام 1372هـ وبينما كان عبدالله في دكان والده عبدالعزيز (أبو سعود كما يعرف) في السوق القديم يساعده بالبيع والشراء إِذ دخل عليهم خادم أمير الرس (عساف بن حسين العساف) وأبلغه أن الأمير يطلب حضوره هو وزميله بالدراسة الشيخ منصور صالح الضلعان -رحمه الله- فلما حضرا لمجلس الأمير أبلغهما أنه ورد خطاب عاجل من أمير القصيم (عبدالله بن عبدالعزيز بن مساعد أمير الحدود الشمالية لاحقًا -رحمه الله- يطلب حضورهما.. انطلقا إلى بريدة ولم يجداه وقابلا وكيله الذي أخبرهما أن هناك برقية عاجلة من ولي العهد (سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله- تقتضي سفرهما إلى مكة المكرمة ومقابلة سماحة الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ رئيس القضاة وهيئات الأمر بالمعروف بالحجاز.. سافرا إلى مكة وهناك قابلا الشيخ عبدالله بن حسن وأخبرهما ببرقية ولي العهد سعود المتضمنة تعيينهما قاضيين في جنوب المملكة.. ونظرًا لحجم هذه المهمة الجليلة وتوجس من مسؤولية القضاء.. حاولا الاعتذار والنأي بأنفسهما لكنهما لم يجدا قبولاً من الشيخ حسن ولا من ولي العهد وعلى الرغم من أنهما أبرقا لولي العهد لكن الثقة بهما وسمعتهما الطيبة وسيرتهما الحسنة وتميزهما بالعلم الشرعي.. جعل ولي العهد يعتمد أمرًا بتكليف المذكورين وسرعة توجههما إلى أعمالهما.. وكان القرار الذي يحمل الرقم 2816 في 14 - 4 - 1372هـ ينص على تعيين الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز الرشيد قاضيًا في محكمة المندق وتحديد راتبه بـ(420) ريالاً وتأمين نقله برًا عن طريق الشركة العربية للسيارات لمقر عمله.
محطات الشيخ عبدالله في رحلة القضاء متعددة وكانت المحطة الأولى هي توليه قضاء محكمة المندق وهي بداية عمله الحكومي وكانت تجربة قاسية في بدايتها فبعد أن اتجه إليها عبر سيارة الشركة العربية من مكة وخلال يومين وصل إلى أطراف البلدة على بعد 10كم أصبحت السيارة غير قادرة على العبور لذا لجأ الشيخ عبدالله ورفاقه (من أقاربه هم عمه الوالد عبدالرحمن صالح الرشيد رئيس هيئة الأمر بالمعروف بالرس -رحمه الله- وأحد أبناء أسرة الغفيلي الكريمة) إلى استئجار خمسة جمال لحمل الأمتعة ودواب أخرى لركوبها.. لكنهم عانوا كثيرًا لصعوبة تضاريس المكان فقطعوا المسافة مشيًا على الأقدام حتى وصلوا بصعوبة لتلك (البلدة) التي كانت بيوتًا ومزارع مبعثرة بين أودية وجبال عسير.. لم يجد الشيخ سكنًا ولا مقرًا للعمل لكن لما علم به الأمير (إبراهيم بن ناصر بن داود - من أهالي حوطة بني تميم) حتى رحب به وأعاره غرفة لأحد الخويا ليستريح فيها.. علم الأهالي بوصول القاضي ففرحوا به لأنه بداية لافتتاح محكمة لديهم لحل قضاياهم.. اتفق الأمير والشيخ على إحالة الدعاوى والمعاملات المهمة التي لا تقبل التأجيل.. وكان الشيخ ينظر فيها من خلال خيمة نصبت لذلك وأغلبها انتهت صلحًا.. حتى تم استئجار مقر للمحكمة وبيت للقاضي وقد عانى الشيخ من قلة توفر الزاد وبيع الطعام لعدم وجود دكاكين ومحلات ولسان حاله يقول:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبة
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
بعد ثلاث سنوات تحسنت أوضاع المعيشة والعمران وانتقلت المحكمة إلى مكان أرحب ولكن نظرًا لكثرة الشكاوى والمطالبات والمرافعات كان عمل الشيخ يمتد إلى بعد العصر وأحيانًا بعد المغرب وكثيرًا ما قام الشيخ بعمل كتاب الضبط لأن من يصل منهم لا يقاومون البقاء في هذه البلدة (الطارفة).. ويقول الشيخ -رحمه الله- لا أعرف كيف يتضجر بعض المشايخ الجدد وهم لم يواجهوا معاناتنا ومن ذكريات الشيخ في تلك الحقبة يقول إنه حصل كسوف للشمس فلم يشعر به الأهالي إلا بعد يومين نظرًا لكثافة السحب وعدم توفر جهاز لاسلكي الذي أمر به الملك سعود لاحقًا بعد زيارته للمنطقة وإعجابه بها خضرة وأمطارا وطبيعة شبهها بسويسرا.. بقي الشيخ قاضيًا بالمندق حتى عام 1383هـ حيث صدر أمر سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رئيس القضاة -رحمه الله- بنقل الشيخ عبدالله مساعد لرئيس محاكم الأحساء.. ولما علم الأهالي أحزنهم ذلك وأسقط في أيديهم لمحبتهم (لقاضيهم) وارتياحهم له فأرسلوا برقيات لسماحة الشيخ محمد للعدول عن القرار وسافر البعض للرياض من أجل ذلك لكن ابن إبراهيم اعتذر لهم وطيب خواطرهم.
أما المحطة القضائية الثانية هي وصوله إلى الأحساء في منتصف عام 1383هـ حيث عمل مساعدة لفضيلة الشيخ صالح بن علي بن غصون -رحمه الله- الذي وصفه الشيخ عبدالله بالفقيه والحازم والمتميز في رئاسته.. ولما نقل ابن غصون في عام 1390هـ إلى عضو في محكمة التميز عين الشيخ عبدالله رئيسًا لمحاكم الأحساء لكن نظرًا لتميز الشيخ عبدالله القضائي والشرعي والعلمي ومن باب الثقة به صدر أمر بتعيينه عضوًا بمحكمة التميز بالرياض في 1396هـ.
وقبل مباشرته صدر أمر من وزارة العدل بناء على قرار مجلس القضاء الأعلى يقضي بسفره للتفتيش القضائي على محاكم المنطقة الغربية والغربية الشمالية ابتداء من محكمة الطائف وضواحيها ثم محاكم منطقة مكة المكرمة ومحاكم الجوف بعد ذلك باشر عمله عضوًا في محكمة التميز وفي عام 1403هـ عين عضوًا في مجلس القضاء الأعلى حتى تقاعده وسط عام 1412هـ ثم صدر أمر ملكي بتمديد عضويته بالتعاقد حتى 1423هـ حيث أبدي الشيخ رغبته بعدم الاستمرار.. بعد خدمة استمرت أكثر من 51 سنة لبلاده الغالية بكل تفانٍ وإخلاص لم ينقض له حكم ولم تدون عليه ملاحظة.
أما التعريف بالشيخ فهو عبدالله بن عبد العزيز بن عبدالله بن عبدالعزيز بن سعود بن عبدالعزيز والدته هي نورة مطلق الحناكي وأخواله ناصر وعبدالله والوجيه صالح مطلق الحناكي -رحمهم الله- وأعمامه محمد وعلي وعبدالرحمن صالح الرشيد أخوان والده لأم..
ولد بالرس عام 1342هـ وتوفي -رحمه الله- صباح يوم الثلاثاء 3 - 10 - 1441هـ له محاولات شعرية لكنه مقل ومنها نظمه خلال زيارته للمدرسة السعودية في عام 15 - 2 - 1364هـ وإعجابه بما شاهده فكتب أبياتًا إلى مدير المدرسة عبدالله بن عبدالرحمن العرفج يقول في مطلعها:
أحب أخبار أخواني وأحبتي
بخير أتى من الرب الكريم المعلم
بمدرسة رسية قد تأسست
بأمر ذي الملك القديم القيم
رحل الشيخ صاحب السجايا والخلق الفاضل من حياتنا بعد معاناة من المرض في الأيام الأخيرة وكان صابرًا شاكرًا.. رحل والكل يلهج له بالدعاء والرحمة والمغفرة وأن يسكنه فسيح جناته.. وقد تلقى أبناؤه برقية عزاء ومواساة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.. ناهيك عن العديد من الاتصالات والتعازي من مناطق عديدة، كما شاركت الجزيرة مشكورة في عزاء وتأبين ومواساة.. فهنيئًا لأسرته بهذا الذكر الطيب وكأن الشاعر يقصده بقوله:
كأنك من كل النفوس مركب
فأنت إلى كل الأنام حبيب
دعواتي له بالرحمة وأن يغسله بالماء والثلج والبرد وأن ينقه من الخطايا وعزائي ومواساتي لأبنائه وبناته وزوجاته وأحفاده وإخوانه ومحبيه وأسرة الرشيد بالوطن الغالي وأن يلهمهم الصبر والسلوان ولا نقول إلا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.