د. حسن بن فهد الهويمل
من الصُّدفِ العجيبة, تسلُّمي لـ(السِّيرة الذاتية) هدية ثمينةً من أعز الأساتذة, وأحَبِّ الأصدقاء, معالي الشيخ (عبدالله بن عبدالمحسن التركي) بارك الله لي, وله فيما بقي من خريف الحياة. وأنا أنتهب الخُطى في كتابة سيرتي الذاتية خشية العوارض, ولا سيما أنني قاب قوسين, أو أدنى من أرذل العُمُرِ.
كنت قد بدأت السيرة بأحد عشر مقالاً, نشرتها متقطعة في جريدة الجزيرة في (صفحة الرأي) حتى لفت نظري (أبو بشار) -حفظه الله- إلى أن ما أكتبه منها لا يناسب صفحة الرأي, فتوقفت مكرهاً.
ونظراً لإلحاح بعض المريدين, نَسأل الله لهم في آجالهم فقد استأنفت كتابة ما تيسر من ذاكرة يتفلت مخزونها, يسر الله إنجازها.
السيرة التي بين يدي, أعُدُّها سيرة أمة, وليست سيرة فرد.
وأحداث دولة, لا أحداث مسؤول.
فمعالي الشيخ عبدالله رجل دولة, تقلب في عدة مناصب, ونهض بعدة مهمات, وأدار عدة مناسبات, وتولى عدة مهمات, وأنيطت به عدة مَسْؤوليات فطاف أرجاء المعمورة, يحمل معه أعقد الملفات, وأهم القضايا.
كنت وأنا أخط بيميني سيرتي على مفترق الطرق, لست أدري على أي المناهج أسير, ولا على أي الأشكال أكتب, فحقل (السيرة الذاتية) في مكتبتي من أوسع الحقول, وأشملها.
دراسات, ومذكرات, ويوميات, وحيوات مهمة لعلماء, ومفكرين, وعسكريين, وساسة.
لأعداء, وأصدقاء، لمنحرفين, ومستقيمين، لعرب, وعجم.
وكان لي شرف التعليم, والتحكيم, والمناقشة, والإشراف على رسائل علمية تتعلق بالسيرة الذاتية.
رسالة الدكتور (عبدالله الحيدري) مناقشة. ورسالة الدكتورة (عائشة الحكمي) إشرافاً. وفي جائز الملك فيصل العالمية تحكيماً.
إضافة إلى أن الإبداع السردي السيري مفردةٌ مهمةٌ في منهج (الأدب السعودي) أحاضر فيها, في قسم الليسانس بجامعتي (الإمام), و(القصيم) منذ أربعة عقود, وألتمس في كل فصل إضافة جيِّدة جديدة.
ولمَّا أزل أناشدُ بإلحاح رجال دولتنا, -أعزها الله, ومكّن لها في الأرض-, الإفراج عما لديهم من تاريخ شفهي عن حاضر المملكة, يُتداول في المجالس, أو هو محفوظ في الصدور.
فمن أولئك من قضى نحبه, دون أن يكتب سيرته, ومنهم من كتب, ولم يقل ما يتطلع إليه المواطن.
رجالات الدولة مستودع أحداثها, وأسرارها التي لا يضر كشفها, وكل واحد منهم ينطوي على منجزات من منجزاتها على مختلف المستويات, وعَديدِ الصُّعُد, ولكل واحد انطباعاته, وتجاربه, وتصوراته, ورهاناته, وتطلعاته, وهذا ما دعاني إلى المطالبة بالإفراج عن الوثائق الشفهية عبر مناهج السِّير الذاتية.
(دارة الملك عبدالعزيز) وهي في سبيل استكمال مشروعها الأهم, سَجَّلت مئات اللقاءات مع شخصيات مهمة, ولما تُفَرَّغْ, وتنشر بعد.
ولاسيما أن المملكة شريك فاعل, ومهم في صناعة القرارات الدولية العالمية.
ورجالاتها أعضاء في هندسة القضايا الكبرى.
ومن الوفاء لها تدوين إسهاماتها الإيجابية, وإشاعتها بين الناس, ليعرف المواطن مكانته, من خلال مكانة دولته.
في العاشر من شوال تسلمت (اللمحات), وكان شيخي (أبو فهد) -حفظه الله- قد كتب الإهداء بتاريخ العاشر من الشهر السابع, فبين الإهداء, والظفر بالهدية الثمينة تسعون يوماً, إذ تعثر وصولها بسبب الحظر, والحجر.
تقع (اللمحات) في خمس وستين وستمائة صفحة من القطع المتوسط, وبحروف أمْيل إلى الصغر, وفهرسة نادرة, ومفيدة.
حشد فيها معاليه مئات القضايا, والأشخاص, والمهمات, والإنجازات, والزيارات.
إنها وثائق أمة, تحكي جوانب الحزم, والعزم, والجد, والأعمال الإنسانية, والحضارية.
وتؤكد أن مملكة العطاء, والإخاء حاضرةٌ بدعمها: الحسي, والمعنوي، في كل قضايا الأمة العربية, والإسلامية, والعالمية، تعطي, ولا تأخذ, تجمع, ولا تفرق. تواسي, وتأسوا, وتتوجع. ذلك دأبها منذ عهد المؤسس -طيب الله ثراه-, إلى عهد المجدد -حفظه الله-.
معاليه عاش الأحداث التي اشترك بها بوعي, ومعرفة, وتجربة. وإشارات معاليه لبعض المواقف في الأزمات تخيف المتابع, لأن المملكة تمارس أدوارها على البراءة, لا تكيد, ولا تتربص, ولا تخاف. وقد تأخذها غفلة المؤمن, بحيث لا تكتشف جلد الفاجر إلا بعد استفحال المكر.
أدركت ذلك في حديث معاليه عن أزمة (احتلال الكويت), وكيف اتخذت (العراق) زمن البعث الصدامي كافة احتياطاتها, وتمهيداتها, وذلك بشراء الضمائر للحياد, أو للتأييد, وتسخير الأصوات للتثبيط, وكيف لقيت (وفود الصداقة) التي بعثت بها المملكة إلى دول العالم, لإقناعهم بأن مهمة المملكة تقتصر على تحرير دولة الكويت فقط, وليست لها أية أطماع.
كان لي شرف الاشتراك في إحدى هذه الوفود, ولكن الدول التي أوْفِدْنا إليها لم تسمح باستقبالنا, لأن المملكة رفضت استقبال وفودها للوساطة, والحيلولة دون التدخل العالمي.
لقد كان الملك (فهد) -رحمه الله- حازماً, قوياً في هذه الأمور, وبخاصة حين اكتشف تخاذل أقرب الدول العربية إليه, دول كانت تعيش على دعم المملكة, ورعايتها, وحمايتها.
لقد فوجئت المملكة من هذه الدول بتخذيلها, وتضامنها مع العراق.
.... يتبع،،،