عبدالمجيد بن محمد العُمري
كم من محنة كانت في ظاهرها شدةٍ مخيفة ولكنها كانت نِعْمةً خفيةً، وكم في المحن الأليمة والمصائب الجسيمة من منح ربانية عظيمة ومن رحم المعاناة تولد المنجزات، والله سبحانه يعلم وأنتم لا تعلمون.
حينما ولد عبدالرحمن في عام 1412هـ لم تلبث فرحة والديه بعد عدة أشهر أن تتحول إلى حزن عميق فقد أخبرهم الطبيب أن المولود كفيف البصر بالكلية، ومع الألم كان هناك سعي وبحث عن الأمل، فقام الوالدان ببذل الأسباب في الداخل والخارج لعرض ابنهما على الأطباء في العيادات الخاصة وفي مستشفيات العيون، ولكن اتفق الجواب من جميع الأطباء بتعذر الإبصار ولا أمل في العلاج وأن عليهم أن يتقبلوا الأمر بصدر رحب، فالحالة لاينفع فيها تدخل جراحي أو معالجات.
أخذ الوالدان يواسيان بعضهما بعضا ويحثان أنفسهما على الصبر والاحتساب، وحينما بدأت خطوات طفلهما الأولى تجددت أحزانهما حينما شاهدا عثراته، لم يقع كما يقع الأطفال في أولى خطواتهم بل أصبح يتعثر بما أمامه أو يصطدم بالجدران والأبواب، ثم في تكرار أسئلته حينما يتلمس الأشياء ويسأل عنها، ثم يزداد الألم مرة أخرى وتتكرر المأساة بعدما يولد المولود الثاني (إسماعيل) بعد سنوات ويعلمان بأنه كفيف كأخيه، ومع الصدمة الأخرى وتجدد الألم والمعاناة إلا أن الصبر على ذلك كان سريعاً فهذا قدر الله ورزقه أولاً، ثم إن الوالدين ألفا على الابن الأول واعتادا على التعامل مع حالته.
ما أكثر أصحاب الابتلاء والمصائب وما أقل أصحاب الإرادة، وكثيرون من الناس يقفون مكتوفي الأيدي عند أي مشكلة أو نازلة تواجههم رغم ما يملكونه من إمكانات وذكاء وفطنة ولكنهم أوتوا حظاً ضئيلاً من العزيمة والإرادة.
نعم قوة الإرادة بعد توفيق الله هي السبب الأول لما شهده العالم من منجزات ومخترعات وعباقرة ونوابغ وعلماء وباحثين ليس على مستوى الأصحاء فقط بل حتى لدى ذوي الاحتياجات الخاصة، فبالشجاعة والإرادة عوض الله نقص الجسم وما تقلص منه إلى الروح والنفس.
يقول الشاعر:
ومن يتهيب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر
وطريق النجاح ليس مفروشاً بالورود وصاحب الإرادة قد يواجه من المعوقات والمثبطات الشيء الكثير حينما يسعى إلى تحقيق هدفه ويقترب من أمله ولربما زاد على الظروف موقف أعداء النجاح منذ الخطوة الأولى في طريقه وفي سبيله مثبطين له، وبعض منهم من الحاسدين أومن الكسالى والمنظرين ضعيفي الهمة من المكثرين للكلام والمقبلين للعمل، ولكن والد الطفلين لم ييأس ولم يستسلم فأراد أن ينقل مجرى حياة أبنائه من مسار معتم إلى مسار آخر مشرق وضاء، وبدأ في التفكير بما يمكن أن يقدم لأبنائه وأبناء المجتمع من أمثالهم.
الثراء دائماً ليس ثراء المال، فالعقل ثراء والفكر ثراء، والمعرفة والعلم والعمل ثراء ولن نرى أثر وثمرة وفائدة كل هذا الثراء إلا حينما يجعل صاحبها للناس نصيباً منها فيعم نفعه وخيره وبركته، وقد فكر والدهما وخطط وعمل وبادر على أن يعمل مافي وسعه لتأهيل المكفوفين بما يفيدهم في حياتهم الخاصة وبما يجعلهم أعضاء فاعلين في المجتمع فاهتدى مع مجموعة من أهل العلم والفضل والخير لتأسيس أول جمعية للمكفوفين في القصيم وهي جمعية العوق البصري الخيرية ببريدة «مبصرون» فقرروا تكوين الجمعية ضمن إطار عمل مؤسسي متخصص لتقديم خدمات لذوي الإعاقة البصرية، تبني برامج لتأهيل ورعاية ذوي الإعاقة البصرية، والعمل على تعزيز الاتجاهات والسلوكيات الإيجابية وتحسين الفعالية المجتمعية حيال الإعاقة البصرية، وكان ميلاد هذا المشروع الحيوي المهم في عام 1427هـ، حيث شرع مع مجموعة من أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة إلى تأسيس الجمعية ولقيت المبادرة قبولاً في الفكرة وتأييداً ومساندة من وزير العمل والشؤون الاجتماعية الأسبق د. علي بن إبراهيم النملة.
انطلقت الجمعية ولا تزال- ولله الحمد- تؤتي ثمارها لتتخطى منطقة القصيم وتنفذ برامجها وخدماتها في جميع مناطق المملكة فدربت الآلاف من المكفوفين والكفيفات على العشرات من البرامج والدورات المتخصصة التي تجاوزت ثلاثمائة دورة تدريبية في إحدى وعشرين مدينة من مدن المملكة، كما تم إهداء أكثر من ثمانمائة كفيف أجهزة حاسوبية مع برامجها المتخصصة للمكفوفين إلى جانب أجهزة القراءة الحديثة، وحتى في أزمة كورونا لم تتوقف الدورات فتم تنفيذ 15 دورة تدريبية عن بعد، كما وزعت الجمعية خمسة آلاف مصحف مطبوعة بطريقة برايل.
هذا الأب الطموح الأستاذ خالد بن سليمان المشيقح حول الهم الذي يحمله منذ ثمانية وعشرين عاماً إلى مشروع حيوي مهم استفاد منه الآلاف ولا يزال منذ تأسيس الجمعية قبل أربعة عشر عاماً يبذل من جهده ووقته وماله الكثير لتسير الجمعية في تحقيق أهدافها وأداء رسالتها وتطوير برامجها وزيارة المؤسسات الخاصة في عدد من دول العالم للاطلاع على مايتم إنتاجه من أبحاث نظرية وتطبيقية عن الإعاقة البصرية والسعي لبناء شراكات إستراتيجية مع المؤسسات الوطنية والدولية ذات العلاقة وأثمرت الجهود المتكاملة من العاملين والداعمين والرعاية الدائمة من صاحب السمو الملكي أمير المنطقة نتائج طيبة للغاية.
لقد وفق الله هذا الأب وأنعم عليه بهذين الشابين المتميزين وحول محنته السابقة إلى منحة عظيمة وهو يرى أن كل كفيف كأحد أبنائه ويسعد بخدمتهم في أي مكان وزمان يسعى في تدريبهم وتأهيلهم ومساعدتهم في إكمال تعليهمم، وهو وكافة العاملين بالجمعية حريصون على الاستفادة من كل النظريات التربوية ووسائل التقنيات الحديثة التي تخدم مكفوفي البصر وتقديم ما يسمو بهم ويسعدهم لتتحول نظرات الإشفاق عليهم إلى نظرات إعجاب وتشجيع، فهذا الرجل بعد توفيق الله وبالإرادة والعزيمة القوية الصادقة رسم الابتسامة على الآلاف وأسعدهم وأسعد أسرهم ورفع الروح المعنوية لهم، وسار نجاحه بفضل الله ثم إخلاصه وتفانيه وما من سبيل إلى الهناء بلا عناء ولا الصعود بلا جهود، إن قصة هذا الرجل ملهمة لنا في حياتنا بوجه عام ألانستسلم للعوائق والعقبات كما أنها رسالة لذوي الهمم العالية ألا ييأسوا وليفخروا بأبنائهم وأن يعملوا على تهيئة كافة الأسباب المعينة على تأهيلهم، ونحن- ولله الحمد- نعيش في بلد مبارك يشيع فيه الخير والتكافل والمبادرات الإنسانية والجمعيات والمؤسسات الخيرية وقبل ذلك الرعاية الكريمة من قيادتنا الرشيدة ممثلة في المؤسسات الحكومية التي تقدم رعايتها واهتمامها بذوي الاحتياجات الخاصة، فبارك الله في جهود المخلصين جميعاً، وهنيئاً لهذا الرجل في أبنائه وعمله المتميز وزاده الله بركة وتوفيقا.