د.محمد بن عبد العزيز الفيصل
يُشكّل التاريخ الوطني مَصدرًا مُهمًا من مصار التراث المحلّي بمختلف مستوياته؛ فعبر هذا التاريخ المخضرم تتحدد الأُطر التي يمكننا من خلالها أن نفهم تراثنا الذي يترجم ثقافتنا المحلية، ويؤسس لعاداتنا وتقاليدنا الراسخة التي كان لها الفضل بعد التزامنا بتعاليم ديننا الحنيف، في تكوين مجتمع متماسك بُنيت سلوكياته على قيم عالية تتسنّمها مكارم الأخلاق.
العديد من العقبات تقف في طريق تدوين تاريخنا الشفهي؛ خصوصًا ما يتصل منه بذاكرة المرأة، وهنا تبرز أهمية الوعي الثقافي في تكوين إدراك فكري يدفع نصف المجتمع إلى تدوين شيء من هذا التاريخ الوطني، ليكون هذا التراث المكتوب رافدًا جديدًا من روافد تراثنا، وعبر هذا الصعيد تبرز مُهمّة دارة الملك عبدالعزيز في تدوين هذه الشذرات لدى النساء ليكون هذا الإنجاز جنبًا إلى جنب مع جهودها المباركة في تدوين التاريخ الشفهي من الرجال!
ما دفعني للكتابة عن هذا الموضوع هو مبادرة جوهرة بنت ناصر السديري، حين أصدرت كتابها: (كشكول- حكايات وأشعار تاريخية)، الذي كشفت فيه عن منهجها في تدوين الروايات، تقول في مقدمة الكتاب: «الكتابة التاريخية أهم حقول الفهم، وأساسها الصدق في الرواية والأمانة في النقل، وبذلك تكتمل القواعد العامة للمادة المحكية».
تبرز أهمية هذا الكتاب في أنه يوثق لمستويات مهمة في تراثنا الشفهي، فمادته تدور في فلك القصص والروايات التاريخية المرتبطة بشخصيات مؤثرة ومواضع ذات شأن، ومن هذا المنطلق تشكلت الأُطر المُهمة في هذا الإصدار؛ وخصوصًا إذا عرفنا أن مؤلفة الكتاب هي إحدى سيدات أسرة السديري البارزات اجتماعيًا وفكريًا؛ فهي صاحبة خلق جم، ورزانة عقل وحكمة، فوالدها كان أميرًا للغاط مسقط رأس أبناء الأسرة، ووالدتها- رحمها الله- هي الأميرة: منيرة بنت أحمد السديري صاحبة المكانة الرفيعة، وهي شقيقة والدة الملوك الأميرة حصة بنت أحمد السديري -رحمها الله- زوجة المؤسس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- وخالة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-، والأميرة منيرة أنجبت جوهرة، و شقيقها معالي سعد بن ناصر السديري وهو أحد رجالات أسرة السديري المعروفين، وقد خدم الوطن في مواقع متعددة، وقد عاشت الجوهرة حياتها بين الغاط والمدينة المنورة عندما كان شقيقها وكيلاً للإمارة، وبعد أن تزوجت سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية برفقة زوجها معالي العم الدكتور: عبدالله بن محمد الفيصل، وبعد رحلة الابتعاث لأمريكا استقرت بالرياض وهي أم لمحمد ونورة ومي.
شرفتني المؤلفة بإهداء باكورة مؤلفاتها وهو بعنوان: «كشكول، حكايات وأشعار تاريخية»، وقبل أن أدلف إلى مادة الكتاب أود أن أشير إلى العنوان، وهو لفظة «كشكول» وهي لفظة فارسية معربة مركبة من (كش) و(كول)، ومعناها حِمل الكتف، كما وردت هذه الكلمة في كتاب: (الألفاظ الفارسية المعربة)، أما دلالتها من الناحية الاصطلاحية فهي تشير إلى الكتاب الذي لا يجمعه موضوع واحد، حيث يجمع من كلِّ فنٍّ بطرف، ليحوي بين دفتيه موضوعاتٍ متعددة من الشذرات الفكرية إلى السوانح الأدبية والروايات التاريخية، وصولاً إلى النوادر والأشعار، وقد أشارت مؤلفة الكتاب إلى هذه المادة في المقدمة حيث تقول: «اجتمع لديَّ عدد من الأخبار والروايات والقصص والأدب، فكان هذا الكشكول بين يدي القارئ الكريم، وبقيت كشاكيل أخرى لعل المولى ييسر إخراجها».
تجري على ألسنتنا كلمة «كشكول» في الكثير من المواضع وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بمدونة الملاحظات العامة التي يكتب فيها الباحث تعليقاته على بعض ما يسمعه ويقرؤه، وفي هذا المضمار يتبادر إلى الذهن أبرز المصنفات التي تسمّت بهذا الاسم وهي: (الكَشْكُول)، لبهاء الدين العاملي المتوفى عام 1013هـ، و(الكَشْكُول)، ليوسف البحراني المتوفى عام 1187هـ، و(الكَشْكُوْلْ في محاسن المقول)، لمحمد بن عثمان السنوسي (ابن مهنية) المتوفى عام 1318هـ، ومن الكتب المعاصرة: (كشكول ابن عقيل)، لفضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل المتوفى عام 1432هـ، وهذه المصنفات ليست سوى نماذج للكتب التي تسمّت بهذا الاسم وغيرها كثير مما لا يتسع المجال لذكرها.
تتجلى أهمية هذا الكتاب في كونه رواية تاريخية لقصص، وأخبار، وأشعار، عُنيت المؤلفة بتدوينها ورصدها، ومن أهم من نقلت عنهم والدتها الأميرة منيرة بنت أحمد السديري، التي وافتها المنية- رحمها الله- عام 1417هـ، وهذا ما أشارت إليه في مقدمة الكتاب حيث تقول: «منذ صغري اهتممت بهذا اللون من الرواية، وزاد من ذلك عناية والدتي وقربي منها الأميرة منيرة بنت أحمد السديري، عليها شآبيب الرحمة والمغفرة، بهذا اللون من القصص والقصائد والأخبار التاريخية؛ هذا بالإضافة إلى أنني كنت أُعنى بحفظ ما أسمعه، فأقوم بنقله وكتابته من رواة آخرين في أوراقي الخاصة...»، فإصدار هذا الكتاب انطلق من وعي المؤلفة بأهمية ما دونته في هذا الكشكول الذي يلقي الضوء بشكل غير مباشر على مراحل تاريخية واجتماعية مهمة مرت بها بلادنا العزيزة.
وقبل أن أعرض شيئًا من مادة الكتاب الذي يقع في (205) صفحات، أردت أن أشير إلى بعض النقاط فيه ومنها: أن أغلب مادة الكتاب هي من القصص والروايات والأشعار التي تندرج ضمن النسيب، إلى جانب أن المؤلفة لم تضع فهرسًا أو عنوانات للمواد الواردة في الكتاب، واكتفت بترقيمها وهي (98) مادة، إلى جانب استخدامها بعض الألفاظ العامية في مواضع يمكن أن تنوب عنها ألفاظ فصيحة، كما أن بعض الأبيات وردت دون الإشارة إلى قائلها أو تاريخها أو من تعليق المؤلفة عليها، ولعلها تستدرك شيئًا من هذه الملحوظات في الطبعات اللاحقة من هذا الكتاب.
من أبرز المواد التي طالعتني في هذا الكتاب أبيات نادرة للملك عبدالعزيز -رحمه الله- قالها في والدته الأميرة سارة السديري عندما كان متوجهًا لفتح الرياض:
يا أهل الرِكاب المواجيفي
دارو على الهجن من غاره
ولا لفيتو على السيفي
ردوا سلامي على ساره
يا مغيزل القلب ياريفي
يازرع قلبي ونواره
وأبيات أخرى قالها المؤسس عندما كان في رحلة صيد، وهذه الأبيات في زوجته الأميرة هيا السديري:
مابه حباري ولابه صيد والبر حتى من جرته خالي
تلقى المقانيص عند الزين يسوى حباريه والمالي
ومما أوردته المؤلفة قصة للشاعر محسن الهزاني حين كان يمشي في السوق ومعه ابنه الصغير، وكانت هناك فتاة تنظر إليهم من أعلى بيت يطل على السوق، فلما رآها محسن بعد أن نبهه ابنه إليها، قال له محسن: «لا هذا الذيب وأنا أبوك مهوب بنت»، ومع أن الهزاني له تجارب في العشق إلا أنه خشي على ابنه من دروب المحبة، وبعد ردة فعل محسن، أنشد ابنه هذا البيت:
الذيب ماله قذله هلهليه
ياليت من له مرقد في حشى الذيب
ومن النوادر التي جاءت في هذا الكتاب قصيدة للأمير سلطان بن عبدالعزيز -رحمه الله- أنشدها وعمره 16 عامًا، منها:
في بعض الأيام ليته ما نطحني
ولا توافق نظر عيني وعينه
إلِّي يبيني أنا به صرت مفتون
يا ناس لا أحد يجي بيني وبينه
كما أوردت المؤلفة أبياتًا للمغفور له بإذن الله الملك فيصل بن عبدالعزيز قالها في زوجته الأميرة سلطانة بنت أحمد السديري، وهي والدة الأمير الشاعر عبدالله الفيصل رحمهما الله:
يازين صوتٍ لابن ودعان
وإن قال حوفوا على الجيش
متنحر مقدم الغزلان
أبو قرون عكاريشي
القلب من عقبكم ولهان
والحال فيها دقاريشي
إلى جانب أبيات أخرى للملك فيصل:
ناحت محاحيل الضماير تراها
وغاصت على قلبي جروح المودة
كله سبب من هو لروحي براها
أبوثليل فوق متنه يكده
العين عين إلِّي سمعنا نداها
والعنق عنق إلِّي ترتع بخبه
يالله يا عالم مغيب سماها
يالِّي إلى سلك ضعيف تمده
تفرج لعين سيَّل الخد ماها
عليك يالِّي كالقناديل خده
كما لفت نظري قصيدة للأمير مساعد بن عبدالعزيز -رحمه الله- أنشدها عندما كان صغيرًا يقول فيها:
سيدي ركب فوق طياره
وأنا معه والمزاييني
جالس بكرسي وأنا جاره
ياجو يا جامع إثنيني
نور السما زادت أنواره
يا أهل الثرى يا مساكيني
ولم تغفل المؤلفة الحياة الاجتماعية وتحديدًا سلوك الناس في المناسبات ومن ذلك حكاية رجل من أهل الجوف سافر إلى البلقاء وحضر مائدة فوجد أن المضيفين من عاداتهم أن يجلس الضيوف على المائدة في صفين الأول على الصحن والثاني رديف له، ويقوم من يجلس في الصف الأول بإمداد من خلفه بالطعام، إلا أن الرجل لم يأكل وبات دون عشاء، فلما بزغت الشمس ركب ناقته وقال هذه الأبيات:
لا والشمس بادي شعقها
من حدَّر الزرقاء على نقرة الجوف
تسقي بها عين ظليل ورقها
نقلط نماها للمسايير وضيوف
كم حال للضيف نرمي شنقها
يقلط حثث ماهو على الزاد مردوف
أحلى من البلقاء وحامي مرقها
ومقلِّطه للضيف ذرعان وكتوف
وحين سمع شيخ البلقاء هذه القصيدة، قال أريد أتأكد من صدق ما قاله هذا الرجل، فبعث اثنين من عنده وقال لهما: اذهبوا للجوف وأنبئوني هل في أهلها هذا الكرم الذي ذكره ابن سرّاح؟ فإذا كان ذلك سأعتذر منه وأجازيه، وأما إن كان كاذبًا فسوف أعاقبه، وحين وصل الوفد إلى لجوف وجدوا أن كل نخل يمرون به كان راعيه يلزمهم أن يأخذوا عذوقا من التمر معهم، وأنهم كانوا يذبحون لهم في الصباح ذبيحة وكذلك في الليل خلال مدة تواجدهم في بلدتهم، فلما عادوا لشيخهم قصوا عليه ذلك، وقالوا: وجدناهم أكثر كرمًا مما ذكر لنا! فما كان من شيخ البلقاء إلا أن اعتذر من الرجل وبعث إليه بعطية جزلة وقال: (راعي الطيب ما ينجزع من كلامه).
ومن النوادر التي وردت في الكتاب أيضًا أبيات للشاعر المعروف محمد بن أحمد السديري قالها في ابنته عفراء عندما كانت صغيرة، وهذه القصيدة لم ترد في دواوينه، ومنها:
عفرا من البيض حويه
لو يزعلن الغناديري
ياعينها عين وكريه
وتصير الخرب تصييري
ومن نصوص الكتاب التي تشير إلى مكانة المرأة في المجتمع قصيدة لعبدالله بن سعد بن عبدالمحسن السديري في زوجته منيرة التي يرمز لها بعزوة أسرة (السديري) وهي (أخو منيرة)، يقول:
يابن سعد عن وليفي لا تقاصيني
ترف الحشى عزوتي بالحب طاويني
طوى اللبن باللحد يالي تعرفونه