د.عبدالله بن موسى الطاير
العنصرية في أمريكا ليست حالة يمكن تعريفها والتعامل معها ببساطة، ناهيك عن اقتلاعها من جذورها. إنه تاريخ معقد جداً وراسخ في بنية المجتمع الأمريكي القديم والحديث ويمتد من رجل الشارع إلى ساكن البيت الأبيض.
العنصر الأبيض في أمريكا يرى أنه الأنقى والأفضل وصاحب الصلاحية لمنح بقية الأعراق حقوقهم بالكم والكيف الذي يراه مناسباً، فهو «المنعم المتفضِّل». وللإنصاف فإنه على الصعيد الشخصي والجمعي يصعب إطلاق أحكام عامة حول هذا الداء العضال في الجسد الأمريكي. الاستثناءات والظروف والأفعال وردودها تقضي أحياناً بما يخالف القواعد التي وقرت في وعي الناس وفي صفحات كتب التاريخ.
رئاسة جورج بوش الابن (2000-2008) بدأت بكارثة 11 سبتمبر 2001م، وانتهت بالأزمة الاقتصادية العالمية. كرد فعل، تخلى الأمريكيون البيض عن حذرهم بحثاً عن النجاة، فانتخب أول رئيس أسود في تاريخ أمريكا وهو باراك أوباما (2008-2016)، الذي صوَّت له 93 % من الناخبين السود على الرغم من انتماء 47 % لليبراليين و43 % للمحافظين. وما إن استقر الاقتصاد وتراجعت التهديدات وازدهرت أمريكا حتى عاد نسق التفكير العنصري يسيطر من جديد، وتصاعدت وتيرة نظرية المؤامرة التي تدحرجت من منصات اليمين المحافظ حول ما إذا كان الرئيس مسلماً؟ كرد فعل لتعاظم الإشاعات، والدعة التي عاشها الأمريكيون في عهد باراك أوباما، ورغبة الأمريكيين في التمرّد على الأطر التقليدية للنخب السياسية في واشنطن، انتخب الرئيس ترامب. العجائب لا تتوقف، فقد وصل لمجلس النواب الأمريكي خلال فترة الرئيس ترامب سيدتان ملونتان مثيرتان للجدل الأولى إلهان عمر والثانية رشيدة طليب، إحداهما محجبة لأول مرة في تاريخ الكونجرس الأمريكي (العلماني)، ونحن نتذكَّر أن البرلمان التركي (العلماني) قد استبعد عضوته المنتخبة مروة قاوقجي عام 1999 على الرغم من أن تركيا بلد مسلم، بينما أمريكا بلد مسيحي، رغم علمانية الدستور. أما عضو الكونجرس رشيدة طليب القادمة من أصول فلسطينية فظهرت أكثر من مرة باللباس التقليدي الفلسطيني، وارتدت الكوفية الفلسطينية وهي سيمائيات تستفز الأمريكي الأبيض سواء حجاب إلهان أو مظهر رشيدة.
اندلاع المواجهات عقب مقتل جورج فلويد لا تخرج عن الفعل ورد الفعل في سياق عام مسكون بالتوجس، فالمجتمع الأمريكي الأبيض (مع بعض الاستثناءات) لم يُسلِّم تماماً بتساوي الحقوق بين العنصر الأبيض والملونين من حملة الجنسية الأمريكية. ما زالت هناك نتوءات نفسية تعيق القبول المطلق بالمساواة. الإعلام التقليدي له حسنات حالت دون العنصريين وتسميم التعايش، بينما وجد العنصريون في شبكات التواصل الاجتماعي منصات لإطلاق خطاب عنصري اجتمع حوله المؤمنون به عبر القارات، ولذلك ازدهرت السياسة والأحزاب الشعبوية.
المعرفة الرائجة أن الحزب الديمقراطي هو الأقرب للسود، وأن الجمهوري هو الأبعد. لكن، وفي سياق التعقيد التاريخي للسياسية الأمريكية فإن الحزب الديمقراطي يعد أقدم حزب سياسي في الولايات المتحدة وبين أقدم الأحزاب السياسية في العالم، وتعود جذوره إلى 1792، كان داعماً ومؤيداً للعبودية، ومعارضاً لإصلاحات الحقوق المدنية، وكان أتباعه من البيض الخُلّص في الولايات الجنوبية. أما الحزب الجمهوري الذي أسس في خمسينيات القرن 19، فكان مناهضاً للعبودية، وأسهم في انتخاب حيرام رودس ريفيلز كأول عضو أسود في مجلس الشيوخ 1870م.
تغيَّرت أيديولوجية الحزب الديمقراطي وفلسفته مع الرئيس الديمقراطي فرانكلين روزفلت بعد الكساد الكبير. واتخذ السود موقفاً مناوئاً للحزب الجمهوري، حليفهم التاريخي منذ منتصف القرن 19، بسبب المرشح الجمهوري للرئاسة عام 1964 باري غولد ووتر الذي صوت ضد قانون الحقوق المدنية.
تبعاً لهذه التحولات الجذرية، ومنذ عام 1964 لم يحصل مرشح رئاسي ديمقراطي على أقل من 82 % من أصوات السود.
التعقيد المستتر خلف الأفعال وردودها يجعل أمريكا هذه الأيام في أزمة حقيقية. هذه الأزمة تتطلب حلولاً تشريعية لا تسمح بها حالة الانقسام الحادة بين الحزبين، وهو ما يجعل الأشهر الخمسة القادمة حاسمة في تحديد اسم الرئيس المرتقب في 3 نوفمبر 2020. المؤشرات تذهب إلى أن كلا المرشحين قد يلجأ لاسترضاء الأمريكيين من أصول إفريقية والملونين عموماً بنائب رئيس أسود. أقرب المرشحين هما كونداليزا رايس للرئيس ترامب، وسوزان رايس للمرشح الديمقراطي بايدن.