د. يوسف بن طراد السعدون
سعيًا نحو التنمية الشاملة، بدأت عام 1961 مسيرة الصناديق (البنوك) التنموية في المملكة العربية السعودية، بتأسيس البنك الزراعي. وتلا ذلك تأسيس بنك التسليف (1971)، ثم عدد من الصناديق التنموية المتخصصة كصندوق التنمية الصناعية (1974)، وصندوق التنمية العقارية (1975)، وغيرهما من الصناديق التنموية، التي هدفت جميعها لدفع النمو في القطاعات المختلفة المحددة لها. وقد حرصت الأنظمة الأساسية لتلك الصناديق على قصر دورها بتقديم التمويل والمشورة الإدارية والفنية للمنشآت الخاصة في المملكة. حيث نجد أن المادة الثانية في نظام صندوق التنمية الصناعية يحدد دوره بتقديم قروض للمنشآت الصناعية الأهلية الجديدة أو القائمة لغرض توسعة نشاطها، وتقديم المشورة الاقتصادية أو الفنية أو الإدارية لها. كما حددت المادة الأولى لنظام صندوق التنمية العقارية دوره في إعطاء قروض للأفراد والمؤسسات لإقامة مشروعات عقارية للاستعمال الخاص أو للاستعمال التجاري.
ولم تغفل الحكومة السعودية عن أهمية ودور الاستثمار الاقتصادي العام المباشر، في دعم وتحفيز النشاط التنموي للقطاعات المستهدفة. فتبنت في سبيل ذلك، سياسة تأسيس شركات رائدة لتكون قاطرات تقود مسارات النمو. ثم قامت في تخصيص تلك الشركات بعدما بدأت بترسيخ مكانتها وانتقالها إلى مرحلة تحقيق الأرباح. والأمثلة على تلك الشركات عديدة منها: شركة سابك، شركة الاتصالات السعودية، شركة الكهرباء، الشركة العقارية، شركة التنمية الزراعية الوطنية (نادك)، شركة الغاز الوطنية، الشركة التعاونية للتأمين، وغيرها الكثير. وقد لعب صندوق الاستثمارات العامة دورًا بارزًا بالتأسيس والمساهمة في تلك الشركات، مما مكنها من الانطلاق الثابت القوي لأداء الأدوار المنوطة بها.
وبنظرة مراجعة لتلك التجربة التنموية السعودية، التي تتجاوز نصف قرن، قد تثار أحيانًا تساؤلات حول: هل كان هناك ما يبرر لتبني الفصل المؤسساتي، بالأسلوب أو الجهة المنفذة، بين الأنشطة التمويلية والاستثمارية العامة الموجهة لدعم النشاط التنموي؟ ولماذا لم تسند المملكة لصناديقها التنموية المتخصصة صلاحيات تتيح لها إمكانية ممارسة عمليات التمويل والاستثمار في القطاعات العاملة بها؟ ولماذا لم تشارك تلك الصناديق التنموية المتخصصة بتمويل المشروعات العامة كالبنى التحتية في القطاعات التي تستهدفها؟ والإجابة على مثل هذه التساؤلات، تعد ذات أهمية نظرًا لدورها بتوفير إرشادات عملية يمكن البناء عليها في رسم المسارات المستقبلية لدعم النشاط التنموي الوطني.
وفي نظري، أن ذلك الفصل الواضح الذي تبنته التجربة السعودية بأسلوب وممارسة أنشطة التمويل والاستثمار التنموي العام، لم يكن صدفة، بل كان نتيجة رؤية فاحصة متميزة طبقتها الحكومة السعودية في سبيل المصلحة العامة للوطن. حيث إن مثل هذا الأمر له مكاسب عديدة، أبرزها:
1- التحديد الواضح للمسؤوليات وضمان عدم التداخل والازدواجية في الأدوار والأهداف، فيما بين الوزارات والمؤسسات الحكومية وصناديق التنمية التي تشرف عليها. فالجهات الحكومية هي المسؤولة عن تنفيذ البرامج والمشروعات المتصلة بالبنى التحتية التنموية وفقًا للسياسات التنموية العامة المرسومة، والممولة من الميزانية العامة السنوية للدولة. بينما الصناديق التنموية يقتصر دورها على تحفيز القطاع الخاص من خلال توفير التمويل اللازم لدعم نشاطاته.
2- ضمان ترشيد إنفاق المال العام وعدم استنزاف رؤوس أموال الصناديق التنموية سريعا، بقصر دورها على تمويل القطاع الخاص وعدم المشاركة بتمويل المشروعات العامة التي تتطلب مبالغ كبيرة. وهذا ما سوف يوفر لها إمكانات أكبر لتحفيز القطاع الخاص ودفعه للاستثمار والمساهمة في نمو القطاعات المستهدفة.
3- أن تمويل المشروعات الاستثمارية المختلفة يتم بالعادة من خلال رأسمال مالك المشروع إلى جانب الاقتراض سواء نقدًا أو من خلال إصدار أوراق مالية. وصناديق التنمية العامة تعد مؤسسات حكومية، ومشاركتها بتلك المشروعات سوف يترتب عليه تبعات على مستوى الدين العام للدولة الذي تحتم مصلحة الاقتصاد الوطني حصر إدارته على وزارة المالية وعدم اشراك مؤسسات حكومية أخرى بالتأثير عليه.
4- ترسيخ التخصصية بالممارسات والأدوار فيما بين الصناديق التنموية والصناديق الاستثمارية أو الشركات الاستثمارية العامة، أخذًا بالاعتبار أن الخبرات والقدرات المطلوبة لنشاط التمويل تختلف عن تلك المطلوبة لنشاط الاستثمار نظرًا لاختلاف طبيعتهما وشروطهما.
5- ضمان الحوكمة الرشيدة بقصر دور الصناديق التنموية على التمويل فقط. حيث إن إمكانية دخولها باستثمارات منفردة أو بالشراكة مع القطاع الخاص أو العام في المجالات التي تستهدفها، له تبعات سلبية مخلة على برامجها التمويلية قد تؤدي إلى محاباة مشروعات معينة على حساب مشروعات أخرى أكثر جدوى وفعالية. كما أنه يدخلها في مناخات المنافسة مع القطاع الخاص، التي هي في الأساس تستهدف دعمه.
6- أن استقلالية المشروعات الاستثمارية العامة عن إشراف الصناديق التنموية، بشركات تنموية متخصصة، يضمن الإدارة التجارية الفعالة وفقًا لمتطلبات السوق والمحاسبة الدقيقة للأداء، مما يسهم في نجاحها وتحقيق الأهداف المنشودة منها. كما أنه يمكن من توزيع مكاسبها على أكبر شريحة من المواطنين من خلال طرحها للاكتتاب العام.
ولذلك، لا بد على المتأمل بتجربة الدعم التنموي السعودي السابقة من الإشادة بالإدارة الحكيمة لسياسة المملكة التنموية، التي نجحت بمساهماتها الملموسة في بناء الكيان الاقتصادي المتين للوطن الذي مكنه من تحقيق مستويات عالية من النمو والرفاهية. وهذا ما يؤكد ضرورة استمرار ممارسات دعم أنشطتنا التنموية القادمة، وعلى نفس النهج السابق في تبني سياسة الفصل فيما بين الأنشطة التمويلية والاستثمارية العامة. حيث إن كل نشاط له مؤسساته وأسلوبه الخاص ولا يمكن لمصلحة الاقتصاد الوطني المزج بينهما. فالتجربة السعودية الثرية قدمت لنا حكمة مدلولها أن صناديق التنمية المتخصصة تمول لا تستثمر.