عبدالرحمن الحبيب
إذا كنت تعتقد أن الحماقة والتفكير غير العقلاني والاستقطابات الحادة هي سبب تصديق ما تعج به وسائل التواصل الاجتماعي من أخبار كاذبة ومعلومات زائفة، فإن الباحثان الدنماركيان فينسنت هندريكس وبيلي هانسن لديهما تصور آخر استنتجاه من أبحاثهما ونشراه بكتابهما «عواصف المعلومات» (Infostorms)، مفاده أن تصديق تلك الأخبار والمعلومات هو نتيجة اتخاذ قرارات عقلانية ولم ينشأ نتيجة غباء بشري بقدر ما ينشأ عن إشكالية في طبيعة بيئة المعلومات نفسها.. كيف؟
عندما يقرأ شخص معلومة خاطئة وليس لديه معرفة بالموضوع، فهل يصدقها أم يكذبها؟ الإجابة النموذجية حسب افتتاحية الكتاب: «لا أتأثر بما يقوله الآخرون عن هذا وذاك؛ بل أحصل على المعلومات من مصادر متنوعة، موازناً بين المؤيد والمعارض، استعرض المعلومات، أسأل بعض الأسئلة الإضافية للأقران والناس، أوازن وجهات النظر الإيجابية والسلبية على النت، أحلل الأدلة، وبعدها أقرر بإنصاف ودون عاطفة متعمدة..».
لكن المؤلفين يتأسفان بأن ذلك متعذر على أغلب الناس لأنه يتطلب جهداً شاقاً للتحقق والتقييم وقد لا يمتلك الفرد أدوات البحث أو الوقت أو الكفاءة، إنما هناك طريقة تقييم أبسط بكثير، وهي الاكتفاء بما يعتقده الآخرون. «عندما لا تمتلك معلومات كافية لحل مشكلة معينة، أو إذا كنت لا تريد أو ليس لديك الوقت الكافي لمعالجتها، فقد يكون من المنطقي تقليد الآخرين عن طريق إثبات اجتماعي».
إنه يشابه، لو أنك دخلت مبنى مسرحياً لا تعرف عنه إلا القليل، ثم رأيت جموعاً تركض هاربة نحو بوابة الخروج، فالتصرف العقلاني أن تهرب معهم لأنه لا وقت لديك للتحقق من صحة هروبهم: هل هو تجربة حريق أم تمثيل أم حقيقة. فعندما تأتينا معلومة مشكوك فيها، ومعرفتنا بموضوعه ضئيلة، فمن المنطقي النظر إلى معتقدات الآخرين الواضحة كدليل على ما يجري.
هذا التصرف عقلاني إذا كنا نعتقد -كالسابق- أن الآخرين لديهم إمكانية المعرفة لمعلومات دقيقة بذلك الموضوع.. لكن في وسائل التواصل الاجتماعي الغالبية تهرف بما لا تعرف.. الإشكالية، إذن، في بيئة المعلومات وآليتها.. هذه الإشكالية لا تخص الأفراد فقط، بل تم أتمتتها بالإنترنت بداية مع محرك بحث جوجل، فبدلاً من المحاولة المستحيلة بتتبع كل موقع وكل معلومة وتقييمها بالطريقة المنهجية المعتادة للتوثيق، فالمعيار هنا هو مواقف المستخدمين تجاه المعلومات أو المواقع عبر خوارزمية يتم خلالها تحويل تريليونات البيانات من أجل تقييم كفاءتها بناء على عدد نقرات الزر وليس على مصداقيتها! وهذا ينطبق على مواقع كبرى مثل Digg.com و Reddit.com حيث تقدم خدمة المفضلات الاجتماعية، متيحة للمستخدمين إضافة وتقييم الأخبار والمدونات وغيرها، ليصبح المستخدم هو الذي يقرر مصداقية الأخبار والمدونات.
إذن، القول الفصل في صحة المعلومة صار للأكثرية؛ ففي دراسة (موخنك وآخرون، 2013) تم تحليل ملايين البيانات والتعليقات عليها وفرزها إلى مجموعات: مؤيدة، معارضة، محايدة؛ وأظهرت النتائج أن التعليق الأول له تأثير كبير، وكمعدل يصل إلى 25 % زيادة أو نقصان عن المجموعة المحايدة. واستنتجت الدراسة أن «محاولات تحصيل الحكم الجماعي والخيار الاجتماعي يمكن بسهولة احتكارها مع عواقب وخيمة على الأسواق والسياسات وصحتنا».
المعلومات تهل علينا كالشلالات لا يستطيع كأس المعرفة التقاطها، فقد أتاحت لنا التقنيات الجديدة عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي معلومات وأخبار عاجلة في كل لحظة وفي كل مكان. صارت الناس تبدأ بوسائل التواصل الاجتماعي للحصول على الأخبار قبل القنوات والصحف الرصينة، لأن الأولى تنشر الأخبار بسرعة قبل التأكد من مصداقيتها.
فهل نحن أكثر استنارة وعقلانية بسبب ذلك أم نتعرض للتلاعب؟.. هذا هو السؤال الجوهري لكتاب «عواصف المعلومات»، فالكميات الهائلة من المعلومات تهدد بإرباك المجتمعات حين تُستخدم بشكل غير ناقد لتكوين الآراء واتخاذ القرارات، وتقوض قدرتنا على فرز الحقيقة من المبتذلة من المغرضة وستؤدي، إن لم يتم كبحها، إلى تقويض ذكائنا الجماعي.
يقول جوي نوفيك: «المعلومات في العالم تتضاعف كل يوم. أما الذي لم تخبرنا به هو أن حكمتنا تنخفض إلى النصف بنفس الوقت». الكتاب يستند على الفلسفة والمنطق وعلم النفس الاجتماعي والاقتصاد وآليات الاختيار (العقلاني والتفاعلي) وعلم المعلومات؛ ويُظهر كيف يمكن استخدام المعلومات لتحسين جودة القرار الشخصي والتفكير الجماعي ولكنه يحذر أيضًا من المخاطر المعلوماتية والمزالق الإعلامية واستقطاب المعتقدات التي قد تضخمها تكنولوجيا المعلومات الحديثة، بدءاً من العلوم المنهجية إلى ثقافة الواقع وفضائها الاجتماعي، مما تنتج معه ظواهر اجتماعية معرفية تتطلب دراسة العلاقات الدقيقة بين تقنيات المعلومات، وهذا ما يقوم به الكتاب.
الكتاب يقدم رؤى علمية وتفسيرات مميزة مع أمثلة سهلة وطريفة واقتباسات حكيمة لا تخلو من روح الدعابة متناولاً ظواهر: التسلط عبر الإنترنت، التعليقات الوقحة، فقاعات الرأي، فقاعات الحالة، تجاهل الأغلبية (المتفرجون)، الاستقطاب السياسي.. وآليات هذه الظواهر وكيف يمكن تجنب سلبياتها رغم صعوبة ذلك ما لم تتحسن بيئة المعلومات وآلياتها.. والكتاب كما قال آدم براندنبورغر (جامعة نيويورك): سيسمح لك بالبقاء عاقلاً في عالم مجنون من المعلومات.