إبراهيم بن سعد الماجد
وشبه المتنبي الحمى بالفتاة الخجولة التي يناجيها بشعره، وقال:
وزائِرَتي كأنَّ بِها حَياءً فَليسَ تَزورُ إلاّ في الظَلامِ
بَذلتُ لها المَطارِفَ والحشايا فعافَتها وباتَت في عِظامي
يَضيقُ الجلدُ عن نفسي وعنها فتوسِعُهُ بأنواعِ السقامِ
كأنَّ الصُبحَ يَطرُدُها فَتجري مَدامِعُها بأَربعة سِجامِ
أراقبُ وقتَها مِن غَيرِ شَوقٍ مُراقَبَةَ المَشوقِ المُستهامِ
ورغم قلة القصائد الشعرية والأعمال الأدبية التي تتناول الطاعون والوباء في عصر صدر الإسلام، فإن الأحاديث النبوية كانت حاضرة بقوة بين أبناء ذلك العصر.
ففي عام 639م، انتشر الطاعون في بلاد الشام وأدى إلى مقتل العديد من الصحابة، ففي قرية «عمواس» الفلسطينية الواقعة بين مدينتي القدس والرملة توفي حوالي 25 ألف شخص في وباء عمواس، بمن فيهم أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وشُرَحبيل بن حسَنة وغيرهم، مما دفع علماء وأدباء مسلمين إلى الكتابة عن الطاعون وكيفية الوقاية منه.
ومن الأحاديث النبوية التي استشهد بها على نطاق واسع في كتب الأوبئة، قول النبي -عليه الصلاة والسلام- «إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه»، وفي حديث آخر رواه البخاري، فعن عائشة رضي الله قالت: سألتُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الطاعون فأخبرني أنه «عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحدٍ يقعُ الطاعونُ فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد».
وكانت الأوبئة القديمة التي حصدت أرواح سكان العالم شائعة في الأزمنة القديمة في مجتمعات الهند والصين ومصر واليونان وغيرها، لكنها انتقلت لمجتمعات جديدة في أفريقيا والأميركيتين بسبب حركة التجارة والهجرة، أو النقل القسري للعبيد، والغزو العسكري.
وفي مقدمته لكتاب «الأوبئة والتاريخ.. المرض والقوة والإمبريالية» للمؤرخ والأكاديمي الأميركي شيلدون واتس، يرى المترجم والأكاديمي أحمد عبد الجواد أن الطاعون في الأزمنة القديمة والعصور الوسطى هاجم الهند ومصر والصين مثلما هاجم أوروبا وبريطانيا وأميركا على حد سواء، لكن ما اختلف هو نمط الاستجابة بين المجتمعات.
وقد طورت المجتمعات الأوروبية الحديثة نظما ومؤسسات للتعامل مع «الكائنات الدقيقة» والأوبئة، بخلاف المجتمعات الأخرى، وبعد كارثة الطاعون الأولى في أوروبا عام 1347م وخلال قرن من تفشي الوباء، طُبقت إجراءات وقائية للحد من انتشار الطاعون، وبحلول عام 1450م طبقت مدن الشمال الإيطالي الحجر الصحي بإجراءاته الخمسة التي تشمل تحديد انتقال البشر ودفن الموتى بالطاعون في حفر خاصة وتغطيتها بالجير الحي والتخلص من متعلقاتهم، وعزل المرضى في مصحات الأمراض المعدية، وفرض ضرائب لصالح قطاع الصحة العامة، وتقديم المعونة للمتضررين بسبب الوباء.
ورغم معرفة العالم الإسلامي بإجراءات الحجر الصحي ضد الطاعون، ودراسة الطب العربي للنظرية العامة للعدوى، وكيف تنتقل الأمراض المعدية من شخص إلى آخر، لم يناقش كتاب «الأوبئة والتاريخ» للمؤرخ الأميركي واتس نشوء مصحات حجر صحي في العالم الإسلامي مثل تلك التي أقامها الأوربيون، وفصّل فيها المؤلف تحت عنوان «اختراع مقاومة المرض»؛ وكان الطبيب العربي أبو بكر الرازي (توفي عام 925م) شرح في كتابه «الحاوي» تفصيل مرض الجذام وطرق عدواه.
وقبل تطبيق الحجر الصحي في جنوى والبندقية ومدن جنوب أوروبا، عرفت دمشق تطبيق العزل الصحي، وقام الخليفة الأموي السادس الوليد بن عبد الملك - الذي حكم بين 705 و715م- ببناء أول مستشفى «بيمارستان» في دمشق وأصدر أمرا بعزل المصابين بالجذام وتجنب اختلاطهم ببقية المرضى في المستشفى. وأجرى الخليفة رواتب للمرضى بما في ذلك المجذومون، وقدم المعونة والعلاج بالمجان، وانتقى أفضل الأطباء والمعالجين لخدمة المرضى.
واستمرت ممارسة الحجر الصحي الإلزامي للجذام في المستشفيات العامة بالعالم الإسلامي لقرون، وفي عام 1431م بنى العثمانيون مستشفى للجذام في أدرنة التي كانت عاصمة عثمانية قبل فتح القسطنطينية (إسطنبول).
وإلى جانب جزيرة البحر المتوسط القريبة من الساحل الإيطالي، شكل فتح العرب للأندلس نهضة علمية وطبية كبرى في شبه الجزيرة الإيبيرية التي اشتهرت فيها قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة وغيرها كمراكز للعلوم لثمانية قرون، وأتاح التواصل مع المشرق العربي وحواضره الزاهرة في زمن الحروب الصليبية فرصة للأوروبيين للتعرف على العلوم والثقافة العربية ونقل معارفها من مراكزها.
ولم تظهر إجراءات الحجر الصحي فجأة في المدن الإيطالية كاختراع دون مقدمات، بالمقابل عرف الطب العربي النظرية العامة للعدوى وإجراءات الحجر الصحي وكيفية التعامل مع الأمراض المعدية، وهو ما نقل عبر الطرق الثلاث السابق ذكرها للمدن الأوروبية.
وكان لترجمة كتب الرازي وابن سينا (صاحب كتاب القانون في الطب الذي تناول الحمى بالتفصيل، وتوفي عام 1037م) تأثير على النهضة الطبية الأوروبية، وخصص الرازي كتاباً للأمراض المعدية مثل الجرب والسل والجذام، وكان له كتاب منفصل عن «الحصبة والجدري» توالى طباعته حتى القرن التاسع عشر، وفي مستشفاه الذي أسسه على مبادئ التجربة، قسم الرازي مرضاه إلى مجموعتين لتجنب انتشار المرض، وقد مكن ذلك من إنشاء الحجر الصحي الذي اعتنقه الغرب بشغف.
وقد ضمت مدن الأندلس العديد من الأطباء، منهم أبو القاسم الزهراوي (توفي 1013م) ومروان بن زهر (توفي 1160م) وبجانب هؤلاء كان ابن الخطيب (توفي عام 1379م) مؤرخاً وطبيباً ورجل دولة ولد في غرناطة وتوفي بفاس المغربية، ويذكر ابن الخطيب في رسالة مبتكرة كيف تنتقل العدوى بين المنازل المجاورة وبين الأقارب والزوار، وعن طريق السفن نحو المدن الساحلية.
وترك ابن الخطيب -بحسب مقدمة كتاب الأوبئة والتاريخ- وصفاً دقيقاً للطاعون الكبير الذي تفشى عام 1348م بأوروبا، وفصل في طرق نقل العدوى قائلا «فإن قيل كيف نسلم بدعوى العدوى، وقد ورد الشرع بنفي ذلك؟ قلنا: لقد ثبت وجود العدوى والتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواردة، هذه هي مواد البرهان. ثم إنه غير خفي على من نظر في هذا الأمر أن من يخالط المصاب بهذا المرض يهلك ويسلم من لا يخالطه، كذلك فإن المرض يقع في الدار أو المحلة من ثوب أوآنية فالقرط يتلف من علقه بأذنه ويبيد البيت بأسره، ومن البيت ينتقل المرض إلى المباشرين، ثم إلى جيرانهم وأقاربهم وزائريهم حتى يتسع الخرق، وأما مدن السواحل فلا تسلم أيضا أن جاءها المرض عبر البحر عن طريق وافد من مدينة شاع عنها خبر الوباء.
وبعد.. أعتذر إن جاءت هذه المقالة حاملة -ربما- ما يكدّر مزاجكم، ولكنها تاريخ يجب أن يُذكر.
وإلى اللقاء في الدرس الثامن -بإذن لله -