كنت مع ابني ريان ذي الثمانية أعوام في إحدى المقاهي في مدينة روبن هود (نوتنغهام) في بريطانيا على طاولة نتجاذب أطراف الحديث بعد يوم طويل على كلينا في جامعتي ومدرسته. في هذه الأثناء دخلت فتاة في مثل عمره أفريقية جميلة بضفائرها الطويلة مع والدتها وجلسا بجورانا على نفس الطاولة. يلتفت إلي ابني (ماما) انظري هذه الفتاة تبدو لطيفة جميلة ضفائر شعرها وشكلها (كيوت) قالها ببراءة الأطفال، ثم استأذنني في الجلوس معها ومشاركتها التلوين واللعب. تعرفت على والدتها وأصبحت تلك الجميلة إيفا صديقة ابني نخرج في نزهة معهم وأصبحنا أصدقاء لهذه العائلة. الذي شدني ولفت انتباهي أن ابني لم يعرف ولم ينطق أي لفظ عنصري ولم ير أي اختلاف وببراءة الأطفال لم ير إلا الجمال. إذاً الطفل بفطرته لا يعرف العنصرية ولم يقل حتى إنها فتاة سمراء وإن كانت هذه الصفة ليست عنصرية بل سمة من السمات. ولم يكن الجمال عنده في قالب وبرمجة ملقنة ومخزنة مسبقاً مما جعلني أفكر حينها هل نحن من يغرس العنصرية في أطفالنا لأن الفطرة السليمة دائماً مجردة من الأحكام.
تذكرت هذا الموقف عندما عجت الولايات المتحدة بالمظاهرات في مقتل جورج فلويد. وكنت أتساءل عن معنى العنصرية وما أنواعها ومن هو المسؤول عن تفشي هذه الظاهرة. لأنها موجودة في مجتمعاتنا وإن حاول بعضنا إظهار أننا مجتمعات ملائكية ولا مكان للعنصرية لدينا. ديننا الإسلامي نبذ العنصرية وحاربها بكل أشكالها ومع ذلك لا زلنا نرى بعضا منها وهذه حقيقة. بل أصبحت لها صور وأشكال وقوالب مختلفة ولكن بكل صدق وشفافية هي ما زالت موجودة.
عندما تبدأ بالحوار مع أحدهم ويبدأ بالسؤال (فين ترجع) وفي أي منطقة كان يقيم جدك المتوفى منذ قرون؟ هو في الحقيقة يصنفك ليضعك في أحد الأرفف من أرفف تصنيفاته، وسيعاملك على هذا الأساس فهذه عنصرية مغلفة. وعندما يصور إعلامنا في مسلسلاته شخصية مكررة بنمط معين وقالب من السذاجة في كل مرة وتكون موضع سخرية في طريقة الشكل والكلام فهذه أيضاً تعزيز برمجة عن أهل هذه المنطقة أنهم كذلك وهي عنصرية في قالب فكاهي. عندما تختلف هبات الجنس الذكر عن الأنثى من قبل بعض الأهالي فهذه أيضاً عنصرية مغلفة بالعادات والتقاليد. وحتى إنه أصبح هناك تصنيفات عنصرية محدثة مثلاً من أي جامعة تخرجت وفي أي بلد كان ابتعاثك. ليبدأ الحديث بعدها نحن ندرس بطريقة معينة ولدينا كذا وكذا ومعاييرنا ومخرجاتنا كذا وكذا، ليختم الحديث لذلك نحن أفضل فهذه أيضاً عنصرية علمية مستحدثة يطول الحديث عنها ولست بصدد التركيز عليها هنا.
الذي لم يره كل هؤلاء رآه طفل لم يكن لديه أي معتقدات محملة في دماغه مسبقاً. الشاهد أن مسؤوليتنا ومسؤولية كل فرد عدم غرس أي معنى من معاني العنصرية لدى أطفالنا، وأن ندع فطرتهم السليمة تحب وتندمج كما خلقها الله مجردة من الأحكام بدون تلويث معتقداتهم ولا وضع فلاتر وتصنيفات لمن حولهم. ومسؤوليتنا كمجتمعات أن نطبق تعاليم ديننا المتسامح لأنه حث على أن نرى في الآخر أفضل ما لديه. وأن نرى دائماً أن في الاختلاف تنوعا ورحمة وجمالا وحضارة. وأن نفهم ونعي جيداً أن أكرمنا هو عند الله هو أتقانا. والتقوى هنا ليست فقط شعائر وطقوسا تقام. التقوى هي أن ترى في الآخر ما تحب أن يراه الآخرون فيك. التقوى أن تلتقط عيناك الجمال والحب والسلام. كن حذراً إذا لاحظت عينك وركزت على عيوب الآخر فقط وصنفته بتصنيفيات معينة فعينك هي في الحقيقة مرآة قلبك، وأنك وأنها التقطت مباشرة موجات قلبك وعبرت عنه وهذه هي العنصرية. العنصرية عندما تطلقها وتراها وإن كنت أسررت بها في نفسك فهي مؤشر قوي لموجات قلبك وصفاء سريرتك. الأمر ليس متأخراً لتقويم أنفسنا وتصحيح معتقداتنا. أمسك ورقة وقلماً ودون ما تلاحظه عينك وتلتقطه في الآخر أولاً؟ هل تلتقط عينك الاختلاف ولا تستسيغه أم أنها تلتقط الجمال والإنسانية ومحاسن الأمور أولاً. إذا كانت لا ترى المحاسن أولاً وعينك لا تلتقط إلا السيئ، فهناك في الغالب خلل. ولكن لديك الوقت لتنظيف قلبك ولديك المقدرة أن تعمره حباً وجمالاً. فقط كن جاداً وابدأ بإخراج وتنظيف كل معتقدات العنصرية بجميع أشكالها وصورها بداخلك وسترى العالم بعد ذلك بجمال جديد وإشراقة مختلفة.
* * *
محاضرة بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن - طالبة دكتوراه في التأهيل الطبي - المملكة المتحدة