إبراهيم بن سعد الماجد
هذه الحلقة، من هذه السلسلة، نعود فيها للوراء ربما كثيراً نستعرض ما كان في عصور مضت، من تشابه في الداء، وتفاعل في العطاء، والأدبي منه أشمل، ففي الأسطر التالية نقرأ مشاهد أوبئة، ولكن بلغة الإبداع، ففي خضم الكثير من المعاناة والمآسي يتولد الإبداع، فقد تناول الأدباء والمفكرون والمثقفون متغيرات وفصول الأزمات في كتاباتهم على مختلف الوجوه الأدبية، نظما وسردا، وذلك منذ أول تفش معروف عام 430 قبل الميلاد خلال الحرب البيلوبونيسية (بين حلفاء أثينا وحلفاء إسبرطة).
ولزمن طويل قبل انتشار فيروس كورونا كان موضوع الوباء تقليدا أدبيا مبثوثا في التاريخ الأدبي القديم، وتناول عدد من الشعراء قصصا إنسانية تتراوح بين الألفة والفراق، ومشاعر من فقد حبيبه بالوباء، وكذلك المحاصرون في الحجر الصحي أو الخائفين من العدوى أو الفارين من الموت.
ومن أشهر القصائد التي كان الوباء موضوعها قصيدة «الكوليرا» للشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة، والتي اعتبرت بداية «الشعر الحر»، مما جعل شهرة هذه القصيدة تفوق قصيدة الشاعر المصري علي الجارم التي كتبها عندما ضربت الكوليرا مسقط رأسه «مدينة رشيد» بمصر عام 1895م.
في كتابه «الطاعون في العصر الأموي: صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية» استعرض المؤلف المصري أحمد العدوي آثار الطاعون على الدولة الأموية والحياة والمجتمعات في أقاليمها المختلفة، واعتبر أن عصر الدولة الأموية شهد حوالي عشرين طاعونا، بمعدل طاعون واحد لكل أربعة أعوام ونصف تقريبا.
واعتبر أن تراجع ثقل دمشق -التي كانت عاصمة للخلافة الأموية- يعود لتفشي الطاعون الذي حسم أيضاً معارك كبيرة في العصر الأموي، بما فيها صراع مصعب بن الزبير مع عبد الملك بن مروان بالبصرة، وكذلك حسم سقوط الأمويين عندما استغل العباسيون الوقت المناسب لإعلان ثورتهم بين طاعونين كبيرين أصابا الشام والعراق في منتصف القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري).
وعند المسلمين فقد اختلف الطاعون تحديدا عن سائر الأوبئة لارتباطه بأحاديث تصفه بالرحمة وتعتبر الميت بالطاعون شهيدا، وللصابر فيه أجر المرابط في سبيل الله، ومن ثم اختلفوا في مسألة الدعاء برفعه من عدمه، ومع ذلك ذهب عدد من الفقهاء لاعتباره عقابا إلهيا على الانغماس في الملذات والمعاصي وترك العبادات وإهمال الفروض.
وقبل تسعة قرون كتب الفقيه والأديب عمر المعرّي الكندي المعروف بابن الوردي قصيدته عن الطاعون التي اعتبرت من قصائد رثاء النفس؛ إذ توفي بسبب الطاعون بعد يومين من كتابتها، وفي تقريره الذي نشره موقع «ميدل إيست آي» البريطاني، قال الكاتب مصطفى أبو سنينة: إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تزخر بتقليد قديم في كتابة الشعر عن المرض والوباء.
وأفاد الكاتب بأن الأعمال المتعلقة بالوباء في منطقة الشرق الأوسط ليست مجرد أدب خيالي؛ إذ تتجاوز الأعمال الفنية والانطباعية لتشمل أيضًا إرشادات النظافة وكتب السفر والأحاديث، وعلاوة على ذلك، قدمت أعمال كاتب القرن التاسع ابن أبي الدنيا مع الأعمال التي كتبها ابن حجر العسقلاني إرشادات حول كيفية مكافحة المرض، مثلما نلجأ في القرن الحادي والعشرين إلى منظمة الصحة العالمية وهيئات الإرشاد المختصة.
وتصور قصيدة الكوليرا للشاعرة العراقية نازك الملائكة، ظلال الموت والحزن والمعاناة التي حطمت مصر خلال الأشهر الأخيرة من عام 1947م، واعتبر الوباء هو الأكبر من نوعه في مصر خلال القرن العشرين، حيث أسفر عن وفاة أكثر من عشرة آلاف شخص.
وتستحضر الملائكة في قصيدتها صوراً حية لعربات تحمل جثثا وللصمت الذي خيّم على الشوارع المصرية، كما تستخدم عبارات عامية للمرض، وتقول:
في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ
الصمتُ مريرْ
لا شيءَ سوى رجْعِ التكبيرْ
حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِيرْ
الجامعُ ماتَ مؤذّنُهُ
الميّتُ من سيؤبّنُهُ لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفيرْ
الطفلُ بلا أمٍّ وأبِ يبكي من قلبٍ ملتهِبِ
وغدًا لا شكَّ سيلقفُهُ الداءُ الشرّيرْ
وقد ركز التصور الشعبي للأوبئة على تفشي الأمراض مثل الموت الأسود في العصور الوسطى أو تفشي الإنفلونزا ما بين 1917-1920م، التي أُطلق عليها اسم «الإنفلونزا الإسبانية».
يروي كتاب «10 أعوام في بلاط طرابلس» لريتشارد تولي، القنصل البريطاني في طرابلس الغرب منذ عام 1784م قصة الطاعون الذي أصاب المدينة الساحلية في عام 1785م.
وكان القش المحترق يستخدم لتطهير المنازل، إلى جانب ما يمكن أن نعترف به الآن على أنه تباعد اجتماعي. وكان الوضع أيضا قاسيا في تونس، حيث وصل الطاعون إلى مدينة صفاقس عام 1784م، ومن المرجح أنه قتل نحو 15 ألف شخص، وحصل ذلك في مدينة ساحلية يبلغ عدد سكانها 30 ألفا، أي ضعف مدينة طرابلس.
وأُصيبت صفاقس سابقا بالطاعون عام 1622م ومرة أخرى عام 1688م، وبعد قرن قضى الوباء على العديد من نخبة الطبقة الحاكمة، بما في ذلك المسؤولون والسياسيون والشعراء، وبدأ الوباء عندما وصل تجار البحر بعد هروبهم من الطاعون في الإسكندرية، ورغم منعهم من دخول صفاقس لكن بعض البحارة تمكنوا من خرق هذا الحظر.
وكتب ابن الوردي الذي عاش في حلب ودمشق وبلاد الشام، واصفا «الموت الأسود» الذي اجتاح العالم خلال منتصف القرن الرابع عشر من آسيا إلى الشرق الأوسط ثم إلى أوروبا.
وأشار الكاتب إلى أن ابن الوردي كان في حلب عندما وصل الطاعون عام 1349م إلى هناك، وظل يفتك بالمدينة لمدة 15 عاما، مما أسفر عن موت حوالي ألف شخص كل يوم، ووصف حاله في أبيات كتبها قبل يومين من وفاته، قائلا:
ولستُ أخافُ طاعوناً كغيري
فما هوَ غيرُ إحدى الحسنيينِ
فإنْ متُّ استرحتُ من الأعادي
وإنْ عشتُ اشتفتْ أذني وعيني
وسمى شاعر العصر العباسي الشهير أبو الطيب المتنبي قصيدته عن الحمى عنوان «زائرة الليل» إذ تشتد الحمى في المساء، ووصف مقاومته للمرض وسعيه لتحقيق آماله، ولم تخل قصيدته من إشارة لكافور الإخشيدي حاكم مصر الذي تسبب في رحيله عنها.
وإلى اللقاء في الدرس السابع -بإذن لله-