جانبي فروقة
«لا أستطيع التنفس» ليس بسبب كورونا وإنما بسبب إرهاصات جائحة التمييز العنصري التي ما زالت تضرب في جسد الولايات المتحدة الأمريكية، كانت هذه الصيحة الأخيرة ما تلفظ بها المسكين جورج فلويد (المواطن الأمريكي ذو البشرة السوداء ومن أصل أفريقي) وركبة الشرطي الشرس ديريك شوفين من شرطة مينيابوليس في ولاية مينوسوتا تخنق رقبته وذلك رغم التطور الكبير في الحقوق المدنية التي شملت أصحاب البشرة الملونة في أمريكا بعد أن كانوا قبل حوالي خمسة عقود يجبرون على أن يجلسوا في مؤخرة الباص وفي كراسي محددة وكانت لهم مراحيض مخصصة لهم حصرا، وكذلك طاولات معينة في المطاعم وحتى إن بعض المطاعم لا تسمح لهم بالدخول.
بعد القتل الوحشي لجورج فلويد أثناء اعتقاله انتشرت موجة الغضب في ولايات ومدن أمريكية عديدة حتى تم فرض حالة الطوارئ وحظر التجوال في بعض منها بعد أن بدأت عمليات السرقة والنهب والحرائق تنتشر رغم أنه تم احتجاز الشرطي ديريك وتحويله للقضاء والغريب أنه في سجله الوظيفي وجدوا أكثر من 12 شكوى قدمت من السكان ولكن إدارته لم تتخذ أي إجراءات تجاهه أوحتى ترسله لدورات تدريبية.
ما لبثت الإدارة الأمريكية تدعو لإعادة فتح الاقتصاد الأمريكي الذي لم يعد هو أيضا يستطيع أن يتنفس حتى تصاعدت أنفاس الغضب بسبب موت جورج فلويد الوحشي وغير المبرر، وهذه الحادثة تدعونا لاستحضار الزعيم السياسي والانساني الأمريكي مارتن لوثر كينغ الذي قاد حركة مدنية تهدف إلى الحصول على الحقوق المدنية للأفارقة الأمريكيين في المساواة وراح ضحية قضيته عندما اغتيل عام 1968م.
«لدي حلم» كانت هذه أروع خطبة ألقاها كينغ عندما قاد مظاهرة شارك فيها 250 الف شخص منهم 60 ألفا من البيض متجهين صوب نصب لينكولين التذكاري في واشنطن العاصمة، وقد قال فيها مارتن لوثر كينغ « لدي حلم بأن يوما من الأيام أطفالي الأربعة سيعيشون في شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم» ورغم أن رسالة كينغ قد تحققت وأن التفرقة العنصرية في أمريكا انتهت قانونيا ويعتبر الكثير من المحللين أن هذا الجهود قد تتوجت بوصول باراك أوباما لسدة الرئاسية الأمريكية في سنة 2009 إلا أن الحوادث الفردية التي تضرب كل فترة تؤكد أن ممارسة القانون ما زالت تعتريه الشوائب الملوثة بعقدة تفوق العرق الأبيض التي تغذيها كما أشار بعض المحللين إلى أن خطابات الرئيس الأمريكي ترامب الشعبوية هي أحد أسبابها. وما يحزن فعلا أنه قد ضاع حلم جورج فلويد تحت ركبة التمييز العنصري.
قتلت الشرطة الأمريكية 1099 شخص في عام 2019 وكان السود يشكلون 24% من هذا العدد رغم أن تعداد الأمريكيين من أصل أفريقي في الولايات المتحدة فقط 13% من مجموع السكان الكلي. و99% من حالات القتل التي قامت بها قوات الشرطة الأمريكية ما بين عامي 2013 إلى 2019 لم تفض إلى إدانة قضائية لأي من أفراد الشرطة الذين قاموا بالقتل. لذلك تتعالى الأصوات دائما لإعادة تأهيل أجهزة الشرطة المدنية في كل أمريكا.
يضرب حاكم ولاية نيويورك أندرو كومو (والذي يشهد له حسن إدارته لأزمة كورونا) مثالا رائعا على قيم الديموقراطية الأمريكية حيث أشار سابقا إلى أن أزمة كورونا كانت قد كشفت ضعف النظام الصحي وخاصة للملونين في أمريكا وفي وفاة جورج فلويد قال بكل صراحة إن وفاة جورج فلويد يمثل نموذجا للظلم وعدم تحقيق العدالة وأضاف أيضا «أن هذه الحادثة هي استمرارية سلسلة من الحالات استمرت لعقود وعقود وما هي إلا فصل في كتاب» وأنه يقف بكل حزم مع كل الاحتجاجات السلمية في المدينة وأن أهل الفقيد والمجتمع كله في مينيابوليس يستحق أجوبة صريحة على ما حدث ولا بد من تحقيق شفاف ومعاقبة الجناة لكي يتم تحقيق العدالة.
يبدو أن فيروس التمييز العرقي والعنصري مازال مستوطنا في نفوس عدد لا بأس به من العرق الأبيض في أمريكا وسيكون هذا الموضوع محورا هاما في الانتخابات الأمريكية المقبلة ولاسيما أن جو بايدن قد بدأ يروج لإمكانية ترشيح امرأة سوداء لتكون نائبة الرئيس وليس من المستبعد أن تكون ميشيل أوباما ضمن القائمة.
في قصة لها مدلول كبير قال حكيم أسود لشاب أبيض عنصري: يا بني أنت لما تولد تخرج للحياة ولونك أزرق وعندما تمرض يصير لونك شاحبا أصفر وعندما تخجل أو تغضب يحمر لونك ولما تحزن يسود لونك وبعد كل هذا تعيرني بلوني الأسود وتقول عني أنني أنا الملون، رغم أن لوني الأسود يبقى هو نفسه في كل الحالات؟