الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
لازالت المخاوف تتشكل في أذهان البعض ممن يرغبون في تخصيص أوقاف لهم بحجة الاستيلاء عليها من الجهات الرسمية الناظرة للأوقاف. واستمر الحال حتى بعد إنشاء الهيئة العامة للأوقاف. ولاشك أن استمرار هذه المخاوف تلقي بظلالها وتتشكل آثارها في ممارسات عدد من الواقفين وراغبي الخير ممن عزم على الوقف لتحقيق حلم البقاء والعطاء المستدام.
«الجزيرة» طرحت التساؤلات في كيفية إعادة الثقة للراغبين في الوقف، والآلية المناسبة لتصحيح الصورة الذهنية في المجتمع، لبعث رسائل أمان واطمئنان لهم، وذلك على عدد من العاملين في الحقل الوقفي، وكانت رؤاهم على النحو التالي:
استقلال الأوقاف
بداية يقول الدكتور خالد بن هدوب المهيدب رئيس لجنة الأوقاف بالغرفة التجارية الصناعية بالمجمعة: تمثل الأوقاف أحد أهم الموارد الاقتصادية التي تسهم في دعم مجالات العمل الخيري والتنموي بصورة عامة، وقد حظي القطاع الوقفي باهتمام بالغ حيث تبنت الدولة تخصيص هيئة عامة للأوقاف تعنى بشئون الأوقاف ورعايتها وقد رسّخ نظام الهيئة الصادر بالمرسوم الملكي رقم م-11 في 26-02-1437هـ استقلال الأوقاف الأهلية الخاصة، وأن الهيئة لا علاقة لها بالأوقاف التي يحدد لها الواقف ناظراً أو مجلس نظارة يتولى شئونها وفقاً لما جاء في الفقرة (2) من المادة الرابعة، والبند(أ) من الفقرة (3)، والفقرة (5) من المادة الخامسة.
وهذا التأكيد يبدد التوجس القائم لدى كثير من الراغبين في الوقف والمترددين في توثيق أوقافهم نتيجة للفهم المغلوط المنطبع في أذهانهم بأن الهيئة العامة للأوقاف تضع يدها على الأوقاف الخاصة. فنظام الهيئة العامة للأوقاف تضمن تطميناً صريحاً وبياناً شافياً للواقفين وضمانة بأن أوقافهم الخيرية التي يعينون عليها ناظراً أو مجلس نظارة في مأمن تام من وضع اليد عليها من قبل الهيئة أو أي جهة طالما انتظم عمل الوقف وفقاً لما نص عليه الواقف إلا أنه حال حصول نزاع فيما يخص نظارة الوقف بعد وفاة الواقف فإن المحكمة تسند النظارة للهيئة العامة للأوقاف كجهة محايدة تضمن استمرار الوقف، وهذا ما يؤكد أهمية ضبط الواقفين لنصوص وقفياتهم بما يضمن عدم حصول أي نزاع أو خلاف على النظارة، أو أن يسند الواقف للهيئة ابتداءً مباشرة نظارة وقفه وإنفاذ شروطه إن تعذر وجود ناظر عليه.
مخاوف التأميم
ويؤكد الأستاذ صالح بن عبدالله الغالب، المختص بالشأن القضائي والمالي: أن الباعث الأول لهذه المخاوف، تلك التجارب التي مرت بها بعض الدول العربية والإسلامية والتي قننت أحكاماً للوقف، ثم عادت بإلغاء الوقف وحل نظامه، أو حصره في مجالات محددة، وإن أول آثار تلك المخاوف هو عدم إثبات الواقف لوقفه لدى القضاء، أو لدى الجهة الرسمية في الدولة والاقتصار على توثيقه إن كان ثمة توثيق بمستندات عادية يجعلها الواقف مستندًا لحفظ وقفه إذا آلت الملكية لورثته بعد موته.
ومضى صالح الغالب القول: لطرح تلك المخاوف والشكوك، وتعزيز الثقة بالدولة ومؤسساتها، هي السيرة التاريخية الناصعة للمملكة في مجال حفاظها على الأوقاف وتأسيس الحماية الشرعية والنظامية لها، وأن من أجل تلك الشواهد على اعتبار شخصية الوقف واحترام الدولة لمكانته الشرعية هي الأوقاف التاريخية في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة والتي تزيد أعمارها عن مئتي عام، فمن لحظة دخول الملك عبدالعزيز -رحمه الله- للحجاز تحت سلطان حكمه، ورغم الحاجة لتدعيم أركان الحكم، وتأسيس البنى التحتية للدولة، إلا إن تلك الأوقاف بقيت شخصيتها الاعتبارية قائمة ومعتبرة، ولم تكن رافداً مالياً مستغلاً لدولته الناشئة، ولا تزال تلك الأوقاف في مكة المكرمة والمدينة المنورة شاهدة على قيمتها واحترامها في وجدان حكام هذه الدولة، فمنذ أن تعاقب حكام هذه الدولة على توسعة الحرمين الشريفين وهذه الأوقاف يعوض عنها مقابل إزالتها ويشترى لها بدل في مكان آخر، وبتعويضات تصل لعشرات بل لمئات الملايين لبعض الأوقاف، وفي هذا كفاية لبيان تعظيم الدولة لشريعة الوقف واحترامها للواقف الذي أخرج ماله من ملكيته لقاء ما عند ربه.. مشيراً إلى أن المراقب لا يزال يرى تطور المملكة في مسيرة تنظيم لهذا القطاع من خلال الأنظمة التي صدرت في ذلك وكان أولها نظام مجلس الأوقاف الأعلى الصادر في عام 1386هـ وحتى آخرها وهو نظام الهيئة العامة للأوقاف الصادر في عام 1437هـ، فضلاً عن الأنظمة الأخرى التي تناولت أحكاماً للأوقاف كنظام المرافعات الشرعية، إضافة للممارسات والمبادئ القضائية في مسائل الأوقاف، وما سيصدر من أنظمة أخرى، مما فيه كفالة لحقوق الوقف وصيانة له عن أيدي العابثين، وهذه المسيرة التنظيمية لقطاع الأوقاف هي في ذاتها شاهد آخر على احترام حق الواقف في وقفه والناظر في نظارته، في تسيير الوقف وإدارته وإمضاء شرطه، وأن الهيئة العامة للأوقاف والتي رست عليها مسؤولية إدارة وتنظيم هذا القطاع الهام، تقع عليها مسؤولية تبديد هذه المخاوف وإحياء الثقة في نفوس الواقفين، من خلال السلوكيات الجادة التي تجسد صدق التوجه ومهنية الأداء، مع التوكيد على أن أول خطوة لوقف دائم: توثيقه.
إعادة الثقة
ويبيّن الشيخ أديب بن محمد المحيذيف رئيس مجلس إدارة جمعية تمكين الشباب لتنمية المجتمع أن الواقف أوقف ماله لله لأسباب منها: رغبته في الأجر والمثوبة والإحسان للناس، وكذلك أن تُصرف عوائد وقفه في المجالات الأكثر حاجة والأعظم أثر من وجهة نظره فهو مثلا يرغب في دعم الفقراء أو دعم التعليم أو الصحة ونحو ذلك وأن يطمأن بنفسه أنها ريع وقفه تذهب فيما خصصه في صك الوقفية، وهو يرغب في الإشراف المباشر وتكون له اليد العليا في تصريف ريع وقفه حسب ما يراه ويحبه، وهذه الأسباب وغيرها تسبب حساسية لدى الواقفين من مسألة الإشراف الحكومي على الأوقاف، ومن هنا يمكن للجهات الرسمية طمأنة الواقفين: من حيث توضيح أن هناك ثقة متبادلة بين الشعب وقيادة هذه البلاد، ولكن تنشأ بعض المخاوف من الوزارات أو الهيئات الحكومية في بعض المسائل، لذا فالأفضل هو حوار أصحاب المصلحة للتوافق على رؤى موحدة يُعد لها تشريعات وأنظمة تحفظها وتراعي مصالح كافة الأطراف، كما أن تصرفات الهيئة العامة للأوقاف وإجراءاتها وقراراتها هي التي تزرع الثقة لدى الواقفين عندما تكون داعمة وشريكة ومسهلة لهم في تأسيس وإدارة أوقافهم.
تنمية الأصل
ويذكر الدكتور علي بن سليمان الفوزان الرئيس التنفيذي غزارة للاستشارات أن الوقف هو عبارة عن تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة، إذن الوقف مطلوب منه تنمية الأصل لتزيد الثمرة، بمعنى آخر الهدف هو الثمرة، لكن الخطورة إذا تأثر الأصل سوف تتأثر الثمرة، والأصل قد يتأثر بالتناقص أو الضياع، بسبب الإهمال أو عدم جدوى الأصل، لذا جاء تقنين الوقف ليعالج هذه المشكلة، لكن ظهر تخوف آخر وهو أن التوثيق والتقنين ينقله من المرونة إلى الانغلاق، وربما تأميم الوقف أي تضع الدولة عليه يدها ويدخل ضمن أملاك الدولة.
هذه التخوفات لها محلها، حيث مرت التجربة الإسلامية بنوع من التقنين الذي قتل روح الأوقاف وكذلك التأميم، إلا أن هذا التخوف ليس الخيار الأمثل، فعدم توثيق الأوقاف يجعلها تندثر وتموت، وبحمد الله عندنا في السعودية تم إنشاء هيئة مستقلة للأوقاف، حيث تم بناء نموذجها على الحوكمة والشفافية في جميع الإجراءات، ابتداءً من الإثبات مروراً بالتثمير والصرف، ويتوفر لدى الهيئة خيارات متنوعة في الإشراف والإدارة، حيث يستطيع الموقف إدارة أوقافه بنفسه أو إسناد إدارتها للهيئة.