الحديث عن التصوير هنا ليس حديثاً فقهياً فيه بيان أحكام فذلك محلّه كتبُ الفقه، وقد تحدث فيه الأولون- رحمهم الله-، ثم تبعهم بالتعقيب والفتوى العلماءُ المتأخّرون في العصر الحديث بعد ظهور التصوير الفوتوغرافي والأفلام... وإنما الحديث هنا عن المذهبين المسلمين والرسامين والوراقين وكيف تعاملوا مع هذه المسألة باقتضاب.
وردت نصوص الحديث الشريف في تحريم التصوير عامةً دون تفصيل أنواعه. ومعلوم أن سبب ذلك هو حفظ التوحيد والبعد عن الشرك ونبذ الوثنية؛ وتتضح الصورة أكثر حين نعلم أن العرب الوثنيين استعملوا التماثيل في عباداتهم، وكذلك الفرس في تخليد ملوكهم، واستعملها اليونانيون والرومانيون في الأمرين معاً، ثم تأثر بهم المسيحيون من بعد، حتى ظهر تيار مناهضة الصور والأيقونات في المسيحية في الدولة البيزنطية، في القرن السابع والثامن الميلاديين = الثاني الهجري. ويرجح بعضُ المؤرخين أن هذا التيار كان بتأثيرٍ من الإسلام الجديد حينذاك..
وللتخلص من الحرج الشرعي استبدل الفنانون المسلمون والوراقون القدامى في بغداد والقاهرة ودمشق والأندلس والمغرب وحواضر الإسلام الزخرفة والتوريق بالرسم والتصوير، فازدهرت الفنون الجميلة لديهم كالخط والتذهيب والزخرفة اعتماداً على التوريق وأغصان النباتات والأشكال الهندسية اللامتناهية، ومن هنا صارت المخطوطات العربية التي تشتمل على صورٍ ورسومٍ لكائنات حيةٍ قليلةً جداً. ونذكر منها هنا نسخة من مقامات الحريري موجودة في المكتبة الوطنية في باريس رسم صورها الخطاط الرسام يحيى بن محمود الواسطي سنة 635 هـ ومثلها بعض كتب الجغرافيا وعجائب المخلوقات القليلة، أما رسوم النباتات في كتب الطب والأدوية فكثيرة ولم يجدوا فيها حرجاً.
وكان من نتاج هذا الموقف أن انطلق الخط العربي متدفقاً بقوةٍ منذ القرن الثالث الهجري ومتنوعاً، ومتخذاً من القرآن الكريم مركز الدائرة لإبداعه بدءاً من الوزير الكبير أبي علي بن مقلة ( ت 328 هـ ) ، وتعاقبت عليه من بعده المدرسة البغدادية والشامية والتركية والحديثة ليظهر علماً وفناً متكاملاً ذا ضوابط وأصول، يعزّ وجود مثلها في الحضارات الأخرى.
لكن بلاد فارس لم تقف هذا الموقفَ نفسه في جميع الحالات؛ ذلك أن التصوير جزءٌ من ثقافتها القديمة قبل الإسلام، وكان الرسم من الفنون التي اهتمت بها الديانة المانوية خاصة، كما أن بلاد فارس متأثرة بالرسم الهندي والصيني الذي كان شائعاً في المخطوطات والمرقعات، وعلى أقمشة الحرير والخزفيات ...خاصة صور الحيوانات والطيور والكائنات الخرافية ...ومعروف أن السجاد الفارسي منذ القدم كثيراً ما يطرز ويرسم صوراً لحيواناتٍ وطيورٍ وغزلانٍ على سجاد الحرير والصوف....ومن بعد العهد المغولي ومع دخول المغول في الإسلام نشط تصوير المخطوطات ورسم المنمنمات في بلاد فارس حتى وصل الأمر إلى رسم صور خيالية لبعض الصحابة رضوان الله عليهم، أو مواقف دينية كغار حراء.
ولو رجعنا إلى مرويات التاريخ السابق لوجدنا قصة خرافية تقول إن الصينيين رسموا النبي صلى الله عليه وسلم بعد زيارة قام بها مندوبٌ منهم إلى المدينة المنورة. وهذا غير ثابت تاريخياً، ولكن من الحق أن نقول هنا إن الحضارة الإسلامية عرفت صوراً للوجوه والرؤوس على النقود والمسكوكات منذ العهد الأموي أيام عبد الملك بن مروان وفي العهد العباسي كذلك في بعض الفترات تأثراً بالدراهم الفارسية والدنانير البيزنطية.
واهتم الفرس كذلك بتزيين بعض كتب الحكمة ككتاب كليلة ودمنة بصور الحيوانات والدواوين الشعرية ببعض الصور والرسوم والزخارف، مما يعطيها جمالاً وإتقاناً ، ولا نزال إلى عهدنا هذا نرى مطبوعات رباعيات الخيام، وديوان حافظ الشيرازي وسعدي وقد أفعمت صفحاتها بالرسوم والتذهيب....ولكن لم ينشط تصوير وجوه الأشخاص بأعيانهم قبل أيام المغول الذين حكموا بلاد فارس وحكموا الهند كما قلنا. وهؤلاء كانت ثقافتهم المحلية والقديمة ذات العلاقة بالصين لا تجد في تصوير الأشخاص بأساً، فاجتهد فنانوهم في رسم الصور الشخصية للملوك والقادة وكبار القوم. وزادت مدرستهم الفنية هذه فأنتجت متخصصين في هذا الشأن كالمصور الشهير بهزاد وحاج محمد نقاش والذي كان له تأثير كبير في رسم الصور والمواقف التاريخية. وما تراه اليوم من مظاهر صور الصحابة الكرام في بعض المناشط الدينية الإيرانية كعلي بن أبي طالب والحسين بن علي رضي الله عنهما... هو امتدادٌ لهذا الموقف الذي شجعه المغول، واهتم به الصفويون من بعدهم فظهر لديهم مذهبون ومصورون من مثل حسن البغدادي وقوام الدين مسعود، مع أن روايات تحريم التصوير الشرعية موجودة عند الشيعة كذلك، كما هي عند أهل السنة.
ومن الحق أن نذكر هنا أن سلاطين المغول والصفويين كانوا أكثر من دعم هذا التيار وحرص عليه، بل اختص بعضهم بتعيين المصورين والخطاطين والرسامين في قصورهم وتشجيعهم ... وبموازاة ذلك نرى أيضاً اهتماماً بالغاً بالتذهيب وتقنياته التي تطورت وقطعت شوطاً كبيراً خاصة في المصاحف الشريفة والربعات وكتب الأدعية...ووصل إلينا من تلك العهود مصاحف في غاية الجمال، ولم يدخل إليها التصوير والرسم مطلقاً تقديراً للنص القرآني الكريم.
** **
د. أحمد بن محمد الدبيان
arabic.philo@gmail.com