«I paint flower so they will not die»- Frida Kahlo
«The art of a people is a true mirror to their minds»
- Jawaharlal Nehru
ما هو الشيء الجميل؟ تساؤل شغل الفلاسفة والمهتمين بالإنسان من تخصصات علم النفس والاجتماع والأنثربولوجي وغيرهم. وحين يحضر الجمال يحضر الفن الذي أشعل جدلًا بين هيجل وسقراط في أن الأخير يرى أن هدف الفن إعادة صناعة ما هو موجود في العالم الخارجي، بينما يرى هيجل أنه طالما الفن يهدف لمحاكاة الطبيعة فسيبقى دون مستوى الطبيعة وشبهها بالدودة التي تجهد لتضاهي فيلًا. ولكن الحقيقة أن القيم الجمالية ما هي إلا انعكاس للقيم الاجتماعية والثقافية، وفي نظر عالم النفس الغيشتالتي رودولف أرنهيم فإن التجربة الجمالية للفن تعتمد على العلاقة بين الكائن كله وأجزائه الفردية. وعلى الرغم من أنه كان أقل اهتمامًا بالسياقات الثقافية والاجتماعية لتجربة إنشاء الأعمال الفنية إلا أنه يعتبر الكائن ككل أقل تمحيصًا أو انتقادًا من النظر في الجوانب المحددة لكيانه. إذ يعكس العمل الفني «تجربة المرء» في حياته.
فالفن هو، في جوهره، انعكاس أو تمثلات سيكولوجية للحالات والظواهر التي تجري في سياق وجودها الاجتماعي والطبيعي، وأنه الوسيلة التي يهدف الإنسان من خلالها، بوعي أو من دونه، إلى تحقيق توازنه النفسي، وذلك بالتعبير عما بداخله من مشاعر ومكبوتات ومدركات وتمثلات.
تعتبر الصورة التي يرسمها الفنان لغة فنية تنطلق من الواقع وتخاطب الجماهير داخل المجتمع باختلاف مستوياتهم الثقافية، حيث يستطيع المستقبل للوحة فنية أن يفهم من اللوحة ما يتلاءم مع مستواه الفكري والثقافي، فيتم الاتصال ومن خلالها التعرف على الآخر. ومن المعروف أن الفنانين تركوا عددًا كبيرًا من اللوحات التي تصف الهوية الثقافية للمجتمع لتبقى بمنزلة وسيلة اتصالية تتداولها الأجيال للتعرف على ثقافة المجتمع وتعزيز هويته.
جمالية الفن في ذاتيته، لذلك من الطبيعي تباين التأويلات حوله واكتشاف معانيه كل حسب أدواته المعرفية والمجال المعرفي الذي ينتمي إليه. لوحة الفنان الياباني «كاتسوشيكا هوكوساي» 1849 -1760 Katsushika Hokusai «»تحت موجة كاناغاوا» والتي لأهميتها تم حفظها حتى اليوم في متحف غيميه في باريس كما أثارت مخيلة موسيقيين ومهتمين بالثقافة والفنون وكانت محط اهتمام كبير انتهى بها اليوم في التراث الثقافي العالمي لمنظمة اليونسكو تحت اسم «مصدر الإيمان ومصدر الفن». ولأن أحد أهم محاور علم النفس الثقافي عنايته بالدور الثقافي في التركيب النفسي للإنسان، إذ له تصوراته الثقافية الإدراكية وهذا الإدراك لا يحدث من فراغ تام من المحيط بل إن البيئة لها دور محوري لعمل العقل. هذا العقل المرتبط بالمحيط العقل الممتد External Mind هو أداتنا المعرفية في فك رموز أي نشاط إنساني، ومن هنا تأتي هذه القراءة السيكوثقافية للوحة الموجة العظيمة. فحين يمكن النظر إليها تمثيلاً رمزيًا للقدرة الإنسانية في مواجهة تهديدات قوى الطبيعة الموجة، فيمكن أيضًا قراءتها من منظور الهوية.
الفن كغيره من أنماط التفاعل والتعبير الإنسانيين يظهر ويتطور في سياق تاريخي معين، وهذه اللوحة تمثل الحقبة التاريخية التي رسمت فيها «موجة كاناغاوا» أو «الموجة العظيمة». رغم الإشارة إلى أن هوكوساي لم يكن يحاول تغيير العالم بهذه التحفة مع أنها الآن من أكثر أعماله الفنية شهرة ومعترف بها في تاريخ البشرية، إلا أنه بالنظر إلى اللوحة بموضوعها العام فإنها في الغالب تعبير عن حبه لجمال اليابان، ليس فقط طبيعتها إنما أيضًا شعبها، أفراد مجتمعه الذين يشكلون هويته الاجتماعية والثقافية. الرائي لها قد لا يجد معنى كبيرًا تشكله تلك اللوحة وذلك من الناحية النظرية، كما لا تحمل ذلك الزخم من المعاني ولكن من المنظور التحليلي النفس اجتماعي يمكن أن تخرج هذه اللوحة بتأملات مفيدة. عند القيام بمحاولات كهذه فإنه من المهم أن نأخذ في الاعتبار الوقت الذي تم فيه إنشاء هذا العمل وهو حوالي أوائل ثلاثينيات القرن التاسع عشر. كان للفن - على مستوى العالم - غرض مختلف تمامًا عما يحمله الفن اليوم. عادة، يفترض أن للفن الحديث والمعاصر رسالة مفاهيمية مهمة لجمهوره - ربما يستفز لدى المتأمل سؤالاً فلسفيًا عميقًا، أو يحمل رسالة سياسية، أو قضية اجتماعية وما إلى ذلك. في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، كان الفن عندما يسعى للتعبير عن شيء ما، غالبًا ما كانت يميل للبساطة أكثر، إذ كان شكلاً من أشكال سرد القصص المرئي، أو ببساطة مجرد صورة جميلة، أو حتى تأكيدًا على موهبة الفنان. وهذا ينطبق بشكل كبير على الثقافة اليابانية كمجتمع جمعي منغلق على ذاته نائيًا عن بقية العالم. ومع ذلك، غالبًا ما ركز عمل هوكوساي على المناظر الطبيعية وأُعتبر أحد أعظم فناني المناظر الطبيعية في التاريخ. تعتبر الموجة العظيمة المقابلة لمدينة كاناغاوا جزءًا من سلسلة هوكوساي أوكييو والتي تسمى «مشاهد جبل فوجي الستة وثلاثون». كان جبل فوجي ولا يزال رمزًا له أهمية كبيرة في الثقافة اليابانية. هذا الجبل الذي لم تتح لي مشاهدته عن قرب في زيارتي لليابان عام 2015 وصورته في ذهني كالحلم، إذ لم تتح لي رؤيته سوى بشكل خاطف من نافذة القطار السريع (شتنكانسن) الذي يعبر مدينة فوجي بمحافظة شيزووكا. عوضًا عن أن جبل فوجي بالنسبة لليابانيين صديق السحاب ورمز للجمال، فهو أيضًا رمز للفخر والهوية الوطنية، كما وله أيضًا أهمية روحية كبيرة وقدسية منذ عصر إيدو (1603 -1868). أراد هوكوسايفي هذه السلسلة إظهار جميع جوانب جمال جبل فوجي وأهميته، إضافة إلى جمال اليابان بأكملها - وبالتالي طبيعة الجبل باعتباره رمزًا ثقافيًا راسخًا في حياة جميع اليابانيين؛ سواء كانوا مزارعين أو صيادين أو نبلاء، فقد كانت عاملاً يحدد الهوية المشتركة لكل هؤلاء، وهذه السلسلة هي الطريقة التي قدم بها هوكوساي ذلك. تصور الموجة العظيمة موجة مستعرة وقوية وهائلة، لكنها في الوقت نفسه مذهلة وآسرة. وقد نظر اليابانيون من معاصري الفنان بأن أفضل زاوية لرؤية اللوحة هي من اليمين إلى اليسار، حيث يبدو مشهد المحيط حاملاً موجته العظيمة في حين ينتظر الصيادون في قواربهم التي تنقل الأسماك من الجزر الجنوبية إلى العاصمة «طوكيو» يتشبثون بالقوارب تحسبًا لوقوع الموجة التي على وشك ارتطامها بهم، والموجة هنا بحجمها المتعاظم توحي بصورة وحش يقترب للانقضاض، وهو في الفولوكلور الياباني يمثل إله البحر أو كاهن البحر Umibozu، إذ تروي الأسطورة أنها تعيش في أعماق المحيط في الليالي الهادئة، حين تشعر بخطر مهدد تتحول وبشكل مفاجئ إلى حالة من الغضب والهيجان فيخرج المخلوق العملاق والتي يصورها هوكوساي بالموجة العظيمة الذي يهدد حياة هؤلاء الصيادين فتحاول إما تحطيم سفينتهم أو أن يطلب منهم دلوًا فتشرع في إغراقهم، وهي تمثل عند الثقافة اليابانية رمزًا لقوة الطبيعة التي لا يمكن التصدي لها إشارة لضعفهم البشري والذي يعتبره البعض حتى الآن أنها حقيقة، وهذا الوحش يمكن أن يأتي في صورة سحب ركامية أو أمواج عظيمة والتي يبرزها هنا هوكوساي في أنها تحاول أن تتهدد جبل فوجي الثابت بهدوء خلفها. اللوحة تبرز الإعجاب الشديد والتباهي بالتركيز على قوة وجمال المحيطات اليابانية الرائعة. حيث أبرز الفنان الخط الساحلي وقوة الصيادين الذين تحدوا ضراوة هذا المحيط وموجه العظيم. ولكن الأهم من ذلك، وهو ما دفعني للكتابة حول هذه اللوحة هو أن جبل فوجي مرئي بوضوح، وهو يقف هادئًا وغير متحرك في الخلفية.
إن أهم رمز في هذا العمل ليس الأمواج، ولا الصيادين في قواربهم، فوجودهم مكمل لبؤرة العمل الفني وعنصره الأهم وهو إظهار أهمية هذا الجبل الشاهق «جبل فوجي» كرمز للهوية الثقافية اليابانية. هذا العمل من بين سلسلة رسوماته السابقة الذكر، يظهر قوة وعظمة جبل فوجي والتي بدورها تمثل إحساس الفنان العارم بانتمائه الوطني والثقافي. فالموج المتعاظم الذي يأتي من كل زاوية أخرى في العالم الكبير المشترك بين عوالم أخرى، إلا أنه يمكن مقاومته من خلال الجبل الذي يدرك المتأمل أن الفنان جعله مركزًا للوحته. فرغم تعاظم الموجة وشدتها فإن الجبل لا يزال أقوى منها ولا يمكن لها أن تتهدد هذا الوجود الراسخ المستقر لجبل فوجي (رمز الهوية الوطنية) والمصير المشترك الذي يجمع كل فئات المجتمع ذات النسيج الواحد. هذه التحفة الفنية هي تعبير عن الحب تجاه الجبل والانتماء - الذي يصوره هوكوساي في هذه السلسلة من الأعمال باعتباره أهم رمز لليابان، تتويجًا لانتمائه لهويته الوطنية وطريقة للحفاظ على موروثه الثقافي. وتأتي أهمية اللوحة اليوم من طغيان هذا الواقع الضاغط على إنسان اليوم، وبالتالي فإن الفن يردم الهوة بين الأجيال سواء كان لوحة فنية، أو منحوتة، أو محفورة مطبوعة تنتمي إلى هذا الزمن البعيد والقريب الذي لم يعد الرحيل صوبه مقتصرًا على من عاش جانبًا منه، وإنما طاول الجيل الشاب الذي يعاني من حيرة الانتماء وفقدان البوصلة.
وبينما رأى البعض لوحة «تحت موجة كاناغاوا» رمزًا للضعف البشري في مواجهة الكون الكبير.. ولكنها ربما تصور قيمة الثابت أمام المتحول والتهديد الخارجي لزعزعة الهوية الثقافية وإشارة لضرورة العودة الأصيلة للهوية الثقافية والتي تعد مصدر اعتزاز اليابانيين. وهي قد تكون تحقيقًا لأمنية هوكوستي الذي كتب تفصيل سيرته الذاتية وهو في عمر 75 سنة بعد إنهائه 100 منظر لجبل فوجي وفيها تفاصيل عن رؤيته الفنية لمراحل حياته المختلفة مستعرضًا آماله قائلًا: «منذ عمر 6 سنوات كنت أرسم مقاطع مما أراه حولي .. ثم أصبحت فنانًا .. وفي عمر الخمسين صرت أرسم لوحات كانت لها أصداء جيدة ..ولكن لا شيء مما رسمته قبل عمر السبعين يستحق الاهتمام ..وفي 73 سنة بدأت أفهم تكوين العصافير والحيوانات والحشرات والأسماك وأيضًا كيف تنمو النباتات.. وإذا بقيت على محاولاتي أكثر وأكثر فمن المؤكد أنني سأفهمهم بشكل أفضل في عمر 86 سنة.. وفي عمر 90 سنة ربما سأصل إلى فهم طبيعتهم الأصلية. وفي عمر 100 سنة ربما سيكون لدي فهم روحاني إيجابي لهم.. بينما في عمر 130 سنة أو 140 سنة أو أكثر.. سوف أصل إلى مرحلة تكون فيها كل نقطة وكل ضربة من فرشاتي أرسمها.. مليئة بالحياة»! والحياة هنا إشارة صريحة لترسيخ الهوية اليابانية التي حاول تعزيز صورتها طيلة حياته ويرى أنها حارس أمين لها ضد أي تهديد خارجي.
** **
د . هيلة عبدالله السليم - أكاديمية وباحثة في علم النفس الاجتماعي والثقافي