منذ أن عصفت أزمة كورونا تشابهَت رؤى معظم الناس حدّ التطابق لنتيجة طبيعية ومُتوقّعة: « العالمُ بعد كورونا ليس كما قبله» وأعجبُ لمن يحفلُ بقولها ظانًّا بأنّ سبقاً فريدا أتى به ليُنبّه العالم لِما هو مُتوقّع وطبيعي ومنطقي. الأمَرّ من هذا كلّه هي خيبة الأمل في معظم الرؤى الراكضة بلهفة يقينية إزاء جائحة كورونا التي صدرت -للأسف- من مظانٍّ فكرية وثقافية جادة في العالم العربي إلاّ من استثناءات قليلة.
المشهد « الكوروني» الهادر جعلني أستعيدُ النصّ العالق في ذهني للشاعر الرائع قاسم حدّاد من ديوانه (لست ضيفًا على أحد): «أن تكون في هامش الناس فتلك نعمة تسبغ عليك حرية صغيرة ، يحلو لك أن تستغرق في آفاق شاسعة لا يدرك رحابتها سواك ..» .
تذكرتُها و أنا أهربُ من المظانّ الكثيرة المتشابهة اليقينية إزاء كورونا إلى ما هو ذو ألق إبداعي يكون شاهداً و موثقا ذكيًّا لهذه الجائحة؛ لذا استمتعتُ بحضور الحفل الموسيقي المُباشر لأندريا بوتشيلي بالإضافة إلى استثناءات قليلة في العالم العربي.
تجربةٌ مذهلة و فريدة أن يأخذك مبدع إلى اللحظة الأولى لإبداعه واضعًا بين يديك الأشياء على سجيّتها كما هي لتتأمّلها ؛ لتتحول تلك الأشياء التي شهدتَ لحظة ولادتها إلى عمل دائم وقد اكتمل لحظة ولادته. هكذا فعلت المؤلفة الموسيقية هبة القوّاس أثناء ارتجالها للعمل الموسيقي الابتهاليّ «الله يا الله» (من كتابة الشاعر عبدالعزيز خوجة في ديوانه «أسفار الرؤيا») في بثٍّ مباشر عبر صفحتها الفيسبوكيّة وبتنظيم ورعاية من مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون.
أثناء البث المباشر بدأت تتحدث عن هذا العالم و التحولات التي يشهدها ثم شرعت في ارتجالها الموسيقي اللحظي لـ « الله يا الله ..» ، لمست أصابعها مفاتيح البيانو لتنساب موسيقاها لتصل شغاف من حضر البث من أماكن مختلفة حول العالم وفي الوقت نفسه يطوفُ مكة و المدينة و القدس، و يكون رفيقا هادئاً لامرأة تضعُ كُمامتها على وجهها تسيرُ في أحد الشوارع الخالية ، ولتلمحهُ عين فرس عربية أصيلة كاد الحزن أن يسقط عينيها ، و يكون أجنحة حُبٍّ لحمام سلامٍ يطير في إحدى ساحات الخيال الواسعة، ثم من بين أشجار غابة الطبيعة الأولى يزهو صوتها بـ : « لو أنهم جاؤوك .. ما نُصب الحداد.. على الجباهِ...»
ليكمل الصوتُ/الهبة رحلته عبر منارة الوئام في صحراء نائية ... إلخ .
هذه بعض المشاهد التي ظهرت لعين من حضر البث أثناء الارتجال الموسيقي الذي تحول لعمل إبداعي موسيقي دائم وُضع على اليوتيوب كما هو لحظة البث المباشر بلا إضافات بعنوان : « الله يا الله ..».
تلك من اللحظات الاستثنائية القليلة التي حضرتها وقاربت الجائحة بفكرة غير تقليدية وملهمة؛ لتكون توثيقاً إبداعياً ذكياً لها من خلال رؤية موسيقية جادة تستلهم جذورها من الإرث الحضاري للموسيقى العربية. كما أنها تماهت فكرة أخذ المبدع لنا إلى أشيائه على سجيّتها الأولى مع فكرة عودة الأرض إلى طبيعتها إثر الجائحة .
الأحداثُ الجِسام التي تضربُ أهل الأرض تكون ملهمة للمبدعين لمقاربتها وتوثيقها بصور إبداعية مُختلفة تليقُ بحدث كوني فيه شبح النهاية لحقبة ما وبداية ما هو جديد ؛ ليحتفل الإنسان بنهايات تتجدد كل حقبة كما هي رؤية الشاعر أُنسي الحاج العميقة في نصّه الذي نشره عام 2013م :
« بعض النهايات كان يجب أن تحصل أيّاً تكن عواقبها. هناك أزمان يشكّل مجرد استمرارها اعتداء على الحياة وتورّماً في التاريخ.فلنتفاءل بالنهايات. قد يتلوها ما هو أسوأ منها ولكنْ لا نخفْ: ما إن تُفْتح بوابة الانتهاءات حتّى يصبح التغيير أسهل الأمور...»
العمل الموسيقي الابتهاليّ « الله يا الله ..» هائلٌ بالولادة ..!
** **
د . حمد الدريهم