«في الحقول مزابل، وفي الناس مزابل؛ والفرق بين الحقول والناس أن الحقول لا تعرف الغش والفساد، فلا تكبر على المزابل ولا تهرب منها، بل تفتح لها صدورها الرحبة، لأن مزابلها منها وإليها؛ فهي بعض منها، وبعض الحقول لا يستحيي ببعضها الآخر. أما الناس فيهربون من مزابلهم، ومزابلهم سماد الحياة فيهم.
الناس سماد الناس، فما أجهلهم يهربون من أنفسهم! وما أعماهم يكرمون النبتة ويرذلون التربة!»
بهذه الفقرة ختم ميخائيل نعيمه نصه» المزابل» من كتابه: «المراحل- مقالات تأملية-» والتي كانت قلب سخرية التأمل في نصه الذي شيده على فلسفته في تأمل سخرية الحياة، وتروم فلسفة البلاغة لاستيقانية تأمليته مطابقة لفلسفته القائمة على المعنى المنوط ببلاغة الفلسفة، بعيداً عن الأساليب البلاغية المنوطة باللغة.
«السماد» هو نواة الأرض، مثلما هو فضلتها، هكذا ألفى ميخائيل الأرض وقد أكلت البقر أعشابها، فكان لحمها وكان لبنها الذي يتغذى منه الناس، ثم تخلصت مما زاد عن حجاتها، فكان الفضلة، وكان السماد، الذي تنبت الأعشاب منه تارة أخرى، فتتغذى عليه البقر مغذية الناس تارتها الأخرى!
إنها بلاغة فلسفة ميخائيل التي تجلت بها استيقان دورة حياة الأرض من لدنه، فالأرض تعيد إنتاج نفسها من فضلاتها التي تخلصت منها؛ ولأن الأرض بتول كما ألفاها ميخائيل فهي لا تستحيي من فضلاتها بل تفتح لها صدرها الرحب لتعيد ضخ الحياة بها كلما هرمت؛ ولذلك فهي بتول.
هذا وجه الأرض في فلسفة ميخائيل الذي يمسك به مثبته أمام المرآة ليرى بوجهه وجه الحياة الذي يرتسم بملامحه فلسفته في التأملية الساخرة، التي تضخ لأكابر الناس حياتهم من صغارهم، مثلما ضخت حياة كبار الأشجار بذرة لا ترى.
وفي جسر العبور الذي عبر به ميخائيل من وجه الأرض إلى وجه الحياة، عبر به بقوله: «في الحقول مزابل، وفي البشرية مزابل. في كل قرية مزبلة، وفي كل مدينة مزابل؛ ينبذها الناس ويتباعدون عنها وهي سماد الحياة في حياتهم، هي منهم وإليهم، نظير ما العشبة الصغيرة الحقيرة من الأرض وإليها».
ألفى ميخائيل الأرض البتول وهي تعيد دورة حياتها من سمادها، محتضنته بصدرها الرحب المفتوح له على الدوام، أما الناس فألفى حياتهم لا تعيد دورة نفسها بدائرة تكاملية، إنما تسري بخط مستقيم لا يلتقي أوله بأوسطه، ولا أوسطه بآخره، فهي تنشأ، لا يعاد تدويرها، تنشأ من الأيدي الكادحة التي تشيد القباب، وتصيغ الذهب، وتنسج الثياب، لينعم بكدها أعلى من بخط الحياة، وينبهر بهم من بأوسطها، أما من انبثق بيديه هذا النعيم فهو في أسفل الخط لا جزاء ولا شكورا، ولا ثمة من يعرف اسمه.
والحق أن هؤلاء العاملين يقتضون أجرهم جراء ما شيدوا وما خدموا، على خلاف البذرة التي لا تقبض أجراً، لكن ليست هذه استيقانية فلسفة ميخائيل، إنما بلاغته في فلسفة رؤيته هي أن البذرة الهينة لا تقتضي أجراً لكنها تنال حباً، واعترافاً بدورها في دورة الأرض، الدور الذي لو سحبته لاختل توازن الأرض، وما إن تلبث حتى تفسد، في حين العامل يقتضي أجره، لكنه ينال الإهانة والتهميش والتنكر أو عدم الاعتراف بدوره في استقامة خط الحياة، وإن دوره لبداية الخط، المنطقة التي لو انسحب منها لهوى الخط من علٍ، متهافت كل من عليه.
بعد اكتمال مشهد النص التأملي كاملاً، أي نص، تأتي فلسفة البلاغة بدورها لاستيقانية التأملية النصية، والتي كانت استيقانيتها في نص ميخائيل هذا، متجلية في فلسفته بإقامة وجهي الأرض والحياة، وجه مقابل وجه، وجه معترف بالجميل لأصغر عنصر فيه، لا يجتزئ منه، بل ينخرط معه فيما يحقق به الكمال، ووجه يتبرأ من أصغر عنصر فيه، يستحيي من الانخراط معه، في حين أن حياته قائمة عليه!
أو كما قال ميخائيل: «الأيدي التي تبني (..) وتنسج (..) وتزرع (..) تلك الأيدي، وما أكثرها، مزابل بشرية يشمخ عليها الذين يحيون بكدها وجناها، ويكفون الأبصار عنها، ويقلبون الشفاه دونها، وهم أحوج إليها من سمكة إلى الماء؛ فيا للغرور، ويا للعمى!».
** **
سراب الصبيح
sarabalwibari@gmail.com