د. خالد عبدالله الخميس
تعبر مصيدة ثيوسيديديز Thucydides›s Trap ببساطة عن مصيدة الحرب بمعنى أن تكون هناك دولتان عظيمتان، أحدهما تبسط سيادتها على العالم مثل أمريكا حالياً، ودولة أخرى كالصين تستمر في الصعود حتى تصل لمرحلة التنافس مع الدولة المهيمنة، وفي هذا الحال يحاول المتنافسان أن يتجنبا الصراع الحربي وأن يتعايشا لكن عندما تكون المصالح متضاربة ويكون التعايش مستحيل فإن خيار الحرب يصبح أمر حتمي inevitable، ومن هنا جاء التعبير بمصيدة الحرب، وكما عنون لهذا المفهوم أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفرد الدكتور قراهام أليسون Graham Allison بـ«حتمية الحرب» في كتابه الشهير Destined for War. أما الحروب التي تنشأ بين دولة قوية وأخرى ضعيفة فلا تندرج تحت صنف «مصيدة الحرب- ثيوسيديدز»، وذلك لأن الدولة القوية دخلت الحرب باختيارها ورغبتها في التوسع وتحقيق أطماعها وليس لأن الحرب فرضت عليها.
ويرجع أصل كلمة ثيوسيديدز إلى الفيلسوف اليوناني ثيوسيديدز Thucydides الذي توقع في زمانه أي قبل الميلاد بقرون، بنشوء حرب بين أثينا والاسبرطا كون أثينا تمثل دولة صاعدة والاسبرطا تمثل دولة مسيطرة، وبالفعل حصل ما توقعه من حرب دامية، واعتبر ثيوسيديدز مؤسس لنظرية حتمية الحرب بين الدولة المسيطرة (Ruling Power) والدولة الصاعدة (Rising power). ولقد قام قراهام أليسون بعدة بحوث وألف عدة كتب وألقى عدة ندوات ومحاضرات كلها تسلط الضوء على مصيدة ثيوسيديدز، وكيف أن مصيدة الحرب كان لها السبب الرئيسي في كثير من المواجهات الحربية الكبرى بين الأمم على مدار التاريخ. ولقد قام بدراسة تاريخية تتبع فيها الحروب الكبرى التي وقعت خلال الـ500 سنة الماضية، ووجد أن أسبابها ناتجة من سبب واحدة وهي مصيدة ثيوسيديدز (حتمية الحرب) حيث تظهر على الدولة المسيطرة دولة أخرى صاعدة منافسة على سيادتها وينتهي الأمر بهما في الغالب لصدام مسلح. ولقد وجد أليسون أن هنالك 16 مواجهة تنافسية بين دول عظمى والكثير منها انتهت بمواجهات حربية، فمن بين 16 حاول مواجهة تنافسية حصلت الحرب في 12 حالة و4 حالات فقط انتهت بالتسليم والاستسلام، فمثلاً كانت سبب الحرب العالمية الثانية عام 1939 ببساطة ترجع لظهور قوة صاعدة وهي ألمانيا تنافس سيدة العالم بريطانيا، وكان الناتج هو تكون مصيدة ثيوسيديدز وقيام حرب حتمية عالمية. وبالعودة للجدول المرفق تجد أن آخر المواجهات بين هي إبان الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا في عام 1962 والتي عاش فيها العالم أيام رعب كونها كادت أن تسفر عن حرب نووية تقضي على الحياة في الأرض لولا أن الطرفين قدما حلول سلمية تقضي بسحب كل قوة من مناطق تهديد الآخر، فبينما سحبت أمريكا قوتها النووية من تركيا سحبت روسيا قوتها النووية من كوبا، وهذه أحد حالات المواجهة الثلاث التي أشار إليها قراهام والتي لم تنتهِ بالحرب.
ويؤكد قراهام أن الصراع بين الدولة المسيطرة والدولة الصاعدة هو صراع حتمي، لكن الحرب ليست حتمية وأن نسبة حتميتها هي 75 % بحسب النسب التي وصل إليها في دراسته التي أثبتت وجود 12 حرباً من أصل 16 مواجهة بين دولة مسيطرة ودولة صاعدة (انظر الجدول المرفق). ويعتبر قراهام مستشار لدى الحكومة الأمريكية وله اهتمام بالتاريخ التطبيقي المعني بتوظيف دراسة التاريخ في استقراء مستقبل الأحداث السياسية وكثّف قراهام محاضراته بالتعريف بمصيدة ثيوسيديدز سواء لدى الصينيين أو الغرب آملاً أن تسهم التوعية بخطورة المصيدة في تجنب الخطوات التي من شأنها أن تُوقع الأطراف في فخ مصيدة الحرب.
دلائل صعود الصين كدولة منافسة
إن دلائل صعود الصين لم تعد تحتاج إلى تأكيد وإثبات، فيكفي مثلاً أن تعلم أن إجمالي الناتج القومي GDP كان في عام 1980 حوالي 190 مليار دولار فقط، وقفز في علم 2018 إلى أن أصبحت 14 تريليون دولار، وهذا الدخل القومي يأتي عالميا هو الثاني بعد أمريكا، ويكفي أن تعلم أن 80 % من الشعب الصيني في عام 1980 فقراء (لا يتجاوز دخلهم عن 2 دولار في اليوم) وأصبحت نسبة الفقر في عام 2018 لا تتجاوز 20 %، وعلى الصعيد العسكري فيكفي الصين امتلاكها لقوة ردع نووي تفترض هيبتها على الدول الأخرى، وعلى الصعيد الصناعي، فيكفي الصين فخراً أن تُلقب «بمصنع العالم»، وعلى الصعيد التقني فقد تمكنت الصين من فرض سيادتها على الأجهزة التكنولوجية الحديثة بما في ذلك سيادتها على الجيل الخامس من تقنية سرعة النت 5G وبأسعار منافسة.
وما نتابعه في الإعلام من توتر في العلاقات الأمريكية الصينية بشأن شركة هواوي لا يرجع فقط على التنافس في التصنيع التكنولوجي بقدر أن تقنية 5G تتيح لدولة الصين فرض قبضتها على الجانب المعلوماتي والاستخباراتي في العالم بدلاً من اقتصار الهيمنة على أمريكا ودول أوروبا.
والصين لم تصل إلى ما وصلت إليه من باب الصدفة بل هنالك خطط استراتيجية ورؤية مدروسة محدد إنجازها في تواريخ معدة مسبقاً، فالصين مثلاً يستهدفون حتى تاريخ هذا العام 2020 لنشل جميع أفراد الشعب الصيني من خط الفقر، وهذا هو أهم مبادئ الحزب الشيوعي الحاكم، وفي عام 2025 يستهدفون لأن تكون الصين هي الأولى عالمياً في إنتاج وتسويق المنتجات التكنولوجية بما في ذلك الكمبيوترات والأجهزة الذكية والذكاء الصناعي. وفي عام 2035 يستهدفون لأن تصبح الصين الدولة الأولى في الاختراعات التكنولوجية (وليس مجرد منتجة تكنولوجيا)، وأن ينتقل دخل متوسط الفرد الصيني إلى مستوى العيش برخاء، وفي عام 2050 يستهدفون لأن تكون الصين الأولى عالمياً في التجهيزات العسكرية، وأن تقف الأمة الصينية شامخة وتفرض سيادتها على العالم على الصعيد السياسي والثقافي والأخلاقي والاجتماعي والعسكري.
ورغم أننا الآن نشهد نهضة صينية منقطعة النظير إلا أن الصينيين يقولون «نحن في بدايات النهضة وبداية الحراك»، ولسائل أن يتساءل «إن كان الصينيون هم الآن في بداية النهضة، فما بالك بالكيفية التي تكون عليها لصين حين اكتمال النهضة وتحقيق الطموح، وإن كان الصينيون يستغرقون فترات قصيرة في تنفيذ المشاريع سواء المنشئات أو الجسور أو الطرق فكيف يكون الحال بعد اكتمال رؤيتهم ومخططهم»، كل هذا يؤكد إلى الشعب الصيني والفرد الصيني لم يعد هو الشعب قبل 30 سنة.
الصين وإدارة ملف كوفيد- 19
لقد أذهل الشعب الصيني العالم بأسرة في أسلوب تعاملهم مع ملف كوفيد-19 بكل كفاءة واحتراف، فعندما انتشر كوفيد 19 في الصين اعتمدت الصين على نفسهم بتخليص نفسها من هذا الوباء، وفي الوقت الذي كان العالم المعادي للصين وخصوصاً أمريكا تستبشر بغرق الصين في مستنقع كوفيد 19 إلا أن الصين أعلنت بعد شهرين من الوباء سيطرتها على الوباء دون أن تمد لأحد، في الوقت الذي غرقت أمريكا والعالم أجمع في أزمة تفشي الوباء، واستعانوا بمنظمة الصحة العالمية التي سنُت بعض الأنظمة الصحية لمكافحة تفشي الوباء، وأصبحت دول العالم يمشون على نسق متماثل في مكافحة الوباء. وهكذا أصبح وكأن للأرض كوكبين، كوكب خاص بالصين وكوكب خاص بالأمم الأخرى، وبدلاً من أن تخرج الصين من الوباء باستنزاف مادي وإرهاق صحي، إلا أنها أصبحت محط أنظار العالم في الإفادة من تجربتها في مكافحة الوباء، وأصبحت الصين أيضاً محط أنظار العالم في استيراد المستلزمات الصحية من كمامات ومنظفات وملابس وقائية وتحاليل خاصة بالوباء، بل إنهم في اليوم الواحد يصدرون للعالم ما لا يقل عن 1.7 مليون اختبار Kit test لفحص كورونا، وتقدر عوائد التحاليل فقط بعشرات المليارات. هذا هو كوكب الصين الذي لم يعمد للقوة العسكرية بل أحرج العالم بأسره في تقدمه التكنولوجي ومبادرته في توفير مستلزمات دول العالم واحتياجاتها من المواد الصحية والطبية ناهيك عن البضائع الأخرى التي لا غنى للعالم عنها.
ورغم هذا كله فأمريكا توجه أصابع الاتهام في سبب جائحة كورونا وانتشاره للعالم إلى دولة الصين، وتطالب منها تحمل مسئولية وتبعات الجائحة سواء على المستوى الاقتصادي أو القضائي، وقد وضعت أمريكا يدها على السندات الصينية الموجود في أمريكا والمقدرة بمئات المليارات ولكن الصين لا تعير لتلك الدعاوي والإجراءات أي اهتمام.
والصين رغم الهجمات الشرسة الإعلامية من العالم الغربي إلا أنها تتمسك بسياسة ضبط النفس وعدم الانجرار نحو الاستثارة وكأنها تطبق المثل الشعبي القائل «امشِ عدل، يحتار عدوك فيك»، ورغم أنه على الصعيد السياسي يوافينا الرئيس الأمريكي ترامب الذي يعرفه الكل بخطابات هنا وهناك، إلا أن الرجل الثاني في العالم غير معروف، ولو سألت أحد يعرف أسماء رؤساء الغرب فإن اسم الرئيس الصيني لا يعرفه رغم أن قوة تأثيره عالمياً تفوق تأثير رؤساء أوروبا، وأن جماهيريته وحب الصينيين له يتخطى الحواجز، ذلكم هو شي جين بينغ X? J?np?ng الذي فكك النظام الشيوعي من قيوده وسلّط سياسته على دعم التقدم الصناعي والحضاري. والصين بقيادتها وشعبها بلا شك سائرة إلى حيث تحقيق مخططاتها كدولة عظمى ورفع شأن شعبها لمستويات عالية من التنمية والرفاهية.
السعودية - الصين
أحسنت بعض الدول بما في ذلك السعودية بتجنب التراشق الصيني الأمريكي وحافظت على سياسة تغليب المصالح المشتركة والاحترام المتبادل مع الطرفين. وكما أن العلاقات السعودية الأمريكية راسخة منذ القدم، فكذلك العلاقات السعودية- الصينية في أوج قوتها، فالتعاون بين البلدين يشمل شتى الجوانب بما في ذلك الجانب العسكري والتقني والتجاري والتعليمي. وقد بلغ التبادل التجاري بين السعودية والصين في عام 2018 حوالي 63 مليار دولار وهو رقم كبير، ومع ذلك ففي قادم الأيام سيتضاعف هذا الرقم حين الانتهاء من تنفيذ الطريق البري الذي يربط بين الصين وقارة أوربا وقارة أفريقيا، وكما أن تركيا تمثل جسر الوصل بين آسيا وأوروبا فالسعودية تمثل جسر الوصل بين قارة آسيا وأفريقيا، وهذا الطريق المسمى بطريق الحرير الصيني Silk Road سيشتمل أيضاً على سكة قطار وجزء آخر بحري يتواصل مع النقاط البرية (انظر شكل 2). ولقد أعربت الصين عن بالغ سعادتها بتدشين السعودية جسر الملك سلمان الذي سيربط بين قارة آسيا وقارة أفريقيا وهذا الجسر سيخدم التبادل التجاري بين القارتين، وسيسهل على الصين تبادلاتها التجارية مع قارة أفريقيا. وكما أن التبادل التجاري بين السعودية والصين سيترسخ في حال اكتمال طريق الحرير، فسيترسخ أكثر في حال تدشين مدينة نيوم التقنية والتي سيكون للصين إسهامات متميزة في بنائها.
وطبقاً للأثر القائل «الحكمة ضالة المؤمن، أنا وجدها فهو أحق بها» فقد سارعت السعودية من جانب آخر لتعميم تدريس اللغة الصينية في المدارس اعترافاً بقدوم النهضة الصينية وفرض سيادتها التجارية والتكنولوجية على العالم.
هل للصين أطماع توسعية؟
رغم ادعاء الصين في مخطط رؤيتها بتكوين علاقات حسنة سلمية مع دول العالم إلا المراقبين يشكك في نواياها في المستقبلية كونها أنها الآن تمارس أطماع لاحت بواردها في الأفق كما في حال رغبتها في بسط نفوذها في هونق كونق على الرغم من أن الوثيقة الموقعة مع بريطانيا- الصين عام 1997 تنص على إبقاء هونق كونق في حكم ذاتي لمدة 50 سنة، ومع استجداء موطني هونق كونق ببريطانيا وأمريكا هذه الأيام إلا أن بريطانيا رفعت يدها من المسئولية ووعدت فقط بمنح الجواز البريطاني لمن يرغب من مواطني هونق كونق والبالغ تعدادهم 7 ملايين، كما عمدت أمريكا إلى رفع ضرائب صادراتها إلى هونق كونق.
كذلك فإن هنالك تحركات عسكرية صينية تجاه جزيرة تايون، والآن تحاول رئيسة وزراء تايوان استجداء دول العالم بما في ذلك أمريكا، لكن العالم كله يتفرج على الوضع ولا تملك أمريكا سوى الحراك الاقتصادي، الذي يضر بمصلحة الطرفين، فعندما توقفت أمريكا من استيراد الصويا من الصين قامت الصين وأوقفت صادراتها من لحوم الخنازير.
ورغم أن أمريكا تؤجج الرأي الدولي بشأن هونق كونق وتايوان إلا أنها تتمنى أن يقتصر مستوى التوسع الصيني على هذا الأمر وألا تتمدد أطماع الصين إلى الدول المطلة على بحر الصين الشرقي حيث كوريا الجنوبية واليابان وأستراليا والفلبين، ولو امتدت يد الصين نحو تلك الدول فإن هذا نذير للدخول في عراك خطير والوقوع في فخ مصيدة ثيوسيديد هو أمر ممكن.
وما زالت محاولات أمريكا للتخفيف من تسارع الصعود الصيني مستمرة، والدعوة لشيطنتها Demonizing إعلامياً وسياسياً واقتصادياً على أشدها، إلا تلك المحاولات ضعيفة أمام المد والصمود الصيني، بل إن دول العالم بما في ذلك الدول الأوروبية لم تعد تستجيب لمبدأ الشيطنة وتعي أن الصين دولة عظمى شاءوا أم أبوا ولا يمكن لأي دولة من العالم أن تستغني عن التبادل التجاري مع الصين بما في ذلك التعامل مع شركة هواوي الصينية واستخدام تقنية 5G.
وبينما يتفق المحللون السياسيون أن سياسة الصين في الوقت الحالي ما زالت مرتكزة على النهضة التكنولوجية والصناعية ورفع اقتصاداتها ودخلها القومي إلا أنهم يختلفون في مدى لجوء الصين لاستخدام الهيمنة hegemony العسكرية في المستقبل، فمثلاً يرى كيشور ماهباباني Kishore Muhbubani عميد كلية العلوم السياسية بجامعة ناشونال بسنغافورا وسفير سنغافورا لدى الأمم المتحدة، أن الصين لن تلجأ للحل العسكري وستكتفي بفرض هيمنتها اقتصادياً ما دام أن الازدهار والرخاء يتحقق اقتصادياً وليس عسكرياً، ويضيف كيشور أن الصينيين في سالف تاريخهم القديم وأوج قوتهم لم يمارسوا ممارسات الدول الاستعمارية والتوسعية كالاتحاد السوفيتي (سابقا) ودول الغرب، ولم يُعرف أن الصين احتلت دولة أخرى، وهذا هو ديدن وثقافة الصينيين، فما دام أن النصر الاقتصادي متحقق فليس للحل العسكري أية معنى، وفي هذا تطبيق لحكمة هنري كيسنجر حينما قال Win the war without fighting يمكنك النصر في الحرب دون قتال.
في المقابل، يرى جون ميرشيمر John Mearsheimer أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاقو، رؤية مغايرة لرأي كيشور عن سياسة الصيني المستقبلية، إذا يرى أن الصين بعدما تفرض اقتصاداتها على العالم فإنها ذلك سيحتم عليها أن تخطو خطوات توسعية عسكري على الأقل في قارة شرق آسيا، وهذا هو طبيعة الدول القوية حينما تدرك أن الهيمنة التوسعية ستضمن له فرض سياسات على العالم بما يخدم مصلحتها، وهكذا يتفق جون مع قراهام في شأن أن هنالك يوما سيأتي يمثل مصيدة من مصائد ثيوسيديدز بين الصين وأمريكا وأن المواجهة حتمية وقادمة لا محالة.
أخيراً، فأخشى ما يخشاه المراقبون أن يتطلع الشعب الصيني الذي قارب تعدادهم مليار ونصف المليار نسمة، والذي يمثل سُدس تعداد البشرية لاقتسام خيرات كوكب الأرض مع باقي الشعوب، وأن تمتد طموحاته لتوزيع كعكة الأرض بحسب العقيدة الشيوعية.