أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: عندي يقين أنني في فضلة العمر لن أستطيع إنهاء التفسير على هذا المنهج الذي أمضيت فيه أكثر من ستين عاماً مكدسة في أضابيري الكثيرة جداً، ولكنني أهتبل الفرصة بإشباع كل مسألة عارضة تخدم منهج المفسر؛ لأن من سينفعه للاستنباط من الأحاديث الصحاح: ليس من البعيد أن ينفعني بذلك دنياً وآخرة؛ فأكون شريكاً في الأجر لمن يفسر كلام الله على هذا المنهج.. ولا يغرنّكم ما ترونه في كتاباتي من ترطيبات أدبية وجمالية؛ فإنني متعمد ذلك وفقاً لجبلتي الثقافية في المباح من العلم، والله ضامن للمؤمنين العاملين (ووعده الحق) أن يجعل لهم وداً كما في سورة مريم، وهذا الود على عمومه عند الرحمن الودود جلَّ جلاله، وعند إخوانه المسلمين، وبهذا ورد الحديث الصحيح، فاصبروا علي غفر الله لي ولكم في كل استطراد يخدم المنهج، وأولى ما سأعنى إن شاء الله تحقيق الفقه في الدين عند تفسير كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والاستنباط منهما، وضرورة القيام بحق الله سبحانه وتعالى بالبيان، والتعاون على إحباط تدليس المضلّلين؛ فإذا سلمت الأفهام: صح التصور والمعتقد؛ لأن استقامة السلوك تبع لذلك.. ثم اعلموا أيها الأحباب: أنه لا مشاحة في الاصطلاح وإن كان قاصراً إذا استقر في العرف العام، واستمرأته الأجيال كالاصطلاح بالفقه أو كتب الفروع على أعمال المكلّفين وما يتعلّق بها من نيّات وأقوال؛ ولعل مأخذ التخصص ههنا لأن مسرح الاجتهاد المشروع في هذا واسع بخلاف العقيدة.. ولقد أحس المالكية بقصور هذا الاصطلاح؛ فختم أكثرهم موسوعته الفقهية بباب يسمونه (الجامع) يذكرون فيه عقائد وآداباً، واتبعهم في هذا المنهج الإمام (ابن حزم)رحمه الله تعالى؛ لأن هذا هو المعهود في بلده.. والفقه أشمل من ذلك يعم كل أحكام الديانة عقيدة وآداباً وأعمالاً تشمل العبادات والمعاملات والحدود، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)؛ فهذا برهان أن الفقه عام، ولهذا قال (أبو حامد الغزالي) رحمه الله تعالى: (وعليكم أن تصرفوا في لفظ الفقه، فخصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى، والوقوف على دقائق عللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلّقة بها): فمن كان أشد تعمقاً فيها وأكثر اشتغالاً بها يُقال عنه: هو الأفقه.. ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقاً على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمالوقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب.. ويدلك عليه قوله تعالى:{لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (122) سورة التوبة، وما به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق واللعان والسلم والإجارة؛ فذلك لا يحصل به إنذار وتخويف، بل التجرّد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه كما يشاهد من المتجرّدين له).. انظر خطبة الكتاب المؤمل ص155 عن (إحياء علوم الدين للغزالي).. وهذا كلام أوله حق، وآخره باطل؛ فعموم الفقه في الدين من حيث يشمل العقيدة والآداب لا يطفئ النور والهدى، ولا يضعف القلوب في تلذذها بأحكام الفقه الاصطلاحي.. والشرط الأول في الفقه في الدين الجد أولاً في طلب العلم الشرعي وما يخدم فهمه من علوم الآلة حتى تحصل له ملكة الفهم ومعرفة المسائل من مظانّها، وأما الإحاطة بذلك كله فمحال في حق كل عالم مهما كان مبلغه من العلم بما في ذلك أئمة المذاهب الفقهية رضي الله عنهم؛ فلا يسلم الصواب لعالم بعينه عند الاختلاف، بل يراجع كل مسألة جزئية من كتب أهل الاختصاص، وأول مدخل لذلك أن تطلع بذكاء وتطلع وصدق مع النفس في اتباع ما تدركه يقيناً أو رجحاناً مع خلوص النيَّة لله.. ولا يحل لك أن تقصر طلبك العلم على مذهب إمام بعينه؛ لأن طلب العلم في القرون الممدوحة قبل حدوث التقليد والتعصب هو ما أسلفته لكم.. قال الإمام (أبو محمد ابن حزم) رحمه الله تعالى: (ولا بد لطالب الحق من أن يسمع حجة كل قائل؛ فإذا أظهر البرهان لزمه الانقياد له والرجوع إليه وإلا فهو فاسق.. والبرهان لا يجوز أن يعارضه برهان آخر؛ فالحق لا يكون شيئين مختلفين، ولا يمكن ذلك أصلاً.. والحق مبين في الملل والديانات بموجب العقل والبراهين الراجعة إلى أول الحس والضرورة؛ فلا بد لمن أراد الوقوف على الحقائق من طلب العلم المؤدي إلى معرفة البرهان.. والحق يستبين في النحل بالرجوع إلى القرآن الذي اتفقت عليه الفرق وإلى الإجماع المتيقن؛ فلا بد لمن أراد الوقوف على الحقائق في ذلك من الوقوف على ما أوجبه القرآن وصح به الإجماع.. والحق يتبيّن فيما اختلف فيه العلماء بالرجوع إلى ما افترض الله تعالى الرجوع إليه من أحكام القرآن والسنن المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فواجب على كل مسلم طلب ما يلزمه منذ لك والبحث عنه واعتقاده الحقإذا صح عنده.. وكل هذا لا يدرك بالأماني الفاسدة، ولا بالأعذار الباردة، ولا بالدعاوى الكاذبة.. لكن بطلب أحكام القرآن، والبحث عن الحديث، وضبطه والاشتغال به عمَّا لا يجدي ولا يغني ).. رسائل (ابن حزم الأندلسي)3/97-98، تحقيق الدكتور (إحسان عباس)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.